فصل: الباب الرابع المتأخرون من فلاسفة الإسلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الملل والنحل **


 الباب الرابع المتأخرون من فلاسفة الإسلام

مثل‏:‏ يعقوب بن إسحاق الكندي‏.‏

وحنين بن أسحاق‏.‏

ويحيى النحوي‏.‏

وأبي الفرج المفسر‏.‏

وأبي سليمان السجزي‏.‏

وأبي سليمان محمد ابن معشر المقدسي‏.‏

وأبي بكر ثابت بن قرة الحراني‏.‏

وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري‏.‏

وأبي زيد أحمد بن سهل البلخي‏.‏

وأبي محارب الحسن بن سهل ابن محارب القمي‏.‏

وأحمد بن الطيب السرخسي‏.‏

وطلحة بن محمد النسفي‏.‏

وأبي حامد أحمد بن محمد الإسفزاري‏.‏

وعيسى بن علي بن عيسى الوزير‏.‏

وأبي علي أحمد ابن محمد بن مسكويه‏.‏

وأبي زكريا يحيى بن عدي الصيمري‏.‏

وأبي الحسن محمد ابن يوسف العامري‏.‏

وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي‏.‏

وغيرهم‏.‏

وإنما علامة القوم أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا قد سلكوا كلهم طريقة أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين‏.‏

ولما كانت طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة ونظره في الحقائق أغوص‏:‏ اخترت نقل طريقته من كتبه على إيجاز واختصار كأنها‏:‏ عيون كلامه ومتون مرامه‏.‏

وأعرضت عن نقل طرق الباقين ابن سينا كلامه في المنطق قال أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا‏:‏ العلم إما تصور وإما تصديق‏.‏

أما التصور فهو العلم الأول وهو أن تدرك أمراً ساذجاً من غير أن تحكم عليه بنفي أو إثبات مثل تصورنا ماهية الإنسان‏.‏

وأما التصديق فهو أن تدرك أمراً وأمكنك أن تحكم عليه بنفي أو إثبات مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ‏.‏

وكل واحد من القسمين منه أولى ومنه ما هو مكتسب‏.‏

فالتصور المكتسب إنما يستحصل بالحد وما يجري مجراه والتصديق المكتسب إنما يستحصل بالقياس وما يجري مجراه فالحد والقياس آلتان بهما تحصل المعلومات التي لم تكن حاصلة فتصير معلومة بالرؤية‏.‏

وكل واحد منهما منه ما هو حقيقي ومنه ما هو دون الحقيقي ولكنه نافع منفعة بحسبه ومنه ما هو باطل مشتبه بالحقيقي‏.‏

والفطرة الإنسانية غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف إلا أن تكون مؤيدة من عند الله عز وجل فلا بد إذاً للناظر من آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يضل في فكره وذلك هو الغرض من المنطق‏.‏

ثم إن كل واحد من الحد والقياس فمؤلف من معان معقولة بتأليف محدود فيكون لها مادة منها ألفت وصورة بها التأليف والفساد قد يعرض من إحدى الجهتين وقد يعرض من جهتيهما معاً‏.‏

فالمنطق هو الذي نعرف به‏:‏ من أي المواد والصور يكون الحد الصحيح والقياس السديد الذي يوقع يقيناً ومن أيها ما يوقع عقداً شبيهاً باليقين ومن أيها ما يوقع ظناً غالباً ومن أيها ما يوقع مغالطة وجهلاً وهذه فائدة المنطق‏.‏

ثم لما كانت المخاطبات النظرية بألفاظ مسموعة والأفكار العقلية بأقوال عقلية فتلك المعاني التي في الذهن من حيث يتأدى بها إلى غيرها كانت موضوعات المنطق‏.‏

ومعرفة أحوال تلك المعاني مسائل علم المنطق‏.‏

وكان المنطق بالنسبة إلى المعقولات على مثال النحو بالنسبة إلى الكلام والعروض إلى الشعر فوجب على المنطقي أن يتكلم في الألفاظ أيضاً من حيث تدل على المعاني‏.‏

واللفظ يدل على المعنى من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها بالمطابقة والثاني بالتضمن والثالث بالالتزام‏.‏

وهو ينقسم إلى مفرد ومركب فالمفرد ما يدل على معنى وجزء من أجزائه لا يدل على جزء من أجزاء ذلك المعنى بالذات‏:‏ أي حين هو جزء له والمركب هو الذي يدل على معنى وله أجزاء منها يلتئم مسموعه ومن معانيها يلتئم معنى الجملة‏.‏

والمفرد ينقسم إلى كلي‏.‏

وجزئي والكلي هو الذي يدل على كثيرون بمعنى واحد متفق ولا يمنع نفس مفهومه عن الشركة فيه والجزئي هو ما يمنع نفس مفهومه ذلك‏.‏

ثم الكلي ينقسم إلى ذاتي وعرضي والذاتي هو الذي يقوم ماهية ما يقال عليه والعرضى هو الذي لا يقوم ماهية سواء كان غير مفارق في الوجود والوهم أو مفارقاً بين الوجود أو غير بين الوجود له‏.‏

ثم الذاتي ينقسم إلى ما هو مقول في جواب ما هو وهو اللفظ المفرد الذي يتضمن جميع المعاني الذاتية التي يقوم الشيء بها وفرق بين المقول في جواب ما هو وبين الداخل في جواب ما هو‏.‏

وإلى ما هو مقول في جواب أي شئ هو وهو الذي يدل على معنى تتميز به أشياء مشتركة في معنى واحد تميزاً ذاتياً‏.‏

وأما العرضى فقد يكون ملازماً في الوجود والوهم وبه يقع تمييز أيضاً لا ذاتياً وقد يكون مفارقاً‏.‏

وفرق بين العرضى والعرض الذي هو قسيم الجوهر‏.‏

وأما رسوم الألفاظ الخمسة التي هي‏:‏ الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام‏:‏ فالجنس يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق الذاتية في جواب ما هو‏.‏

والنوع يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو إذا كان نوع الأنواع وإذا كان نوعاً متوسطاً فهو المقول على كثيرين مختلفين في جواب ما هو ويقال عليه قول آخر في جواب ما هو بالشركة‏.‏

وينتهى الإرتقاء إلى جنس لا جنس فوقه وإن قدر فوق الجنس أمر أعم منه فيكون العموم بالتشكيك والنزول إلى نوع لا نوع تحته وإن قدر دون النوع صنف أخص فيكون الخصوص بالعوارض‏.‏

ويرسم الفصل بأنه الكلي الذاتي الذي يقال به على نوع تحت جنسه‏:‏ بأنه أي شيء هو‏.‏

وترسم الخاصة بأنها هي الكلي الدال على نوع واحد في جواب أي شيء هو لا بالذات‏.‏

ويرسم العرض العام بأنه الكلي المفرد الغير الذاتي ويشترك في معناه كثيرون ووقوع العرض على هذا وعلى الذي هو قسيم الجوهر وقوع بمعنيين مختلفين‏.‏

في المركبات‏:‏ الشيء إما عين موجودة وإما صورة مأخوذة عنه في الذهن ولا يختلفان في النواحي والأمم‏.‏

وإما لفظة تدل على الصورة التي في الذهن وأما كتابة دالة على اللفظ ويختلفان في الأمم‏.‏

فالكتابة دالة على اللفظ واللفظ دال على الصورة في الذهن وتلك الصورة دالة على الأعيان الموجودة‏.‏

مبادئ القول‏:‏ إما اسم وإما كلمة وإما أداة‏.‏

فالاسم لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى والكلمة لفظ مفرد يدل على معنى وعلى الزمان الذي فيه ذلك المعنى موضوع ما غير معين والأداة لفظ مفرد إنما يدل على معنى يصح أن يوضع أو يحمل بعد أن يقترن باسم أو كلمة وإذا ركبت اللفظ تركيباً يؤدي إلى معنى فحينئذ يسمى قولاً‏.‏

ووجوه التركيبات مختلفة وإنما يحتاج المنطقي إلى تركيب خاص وهو أن يكون بحيث يتطرق إليه التصديق والتكذيب‏.‏

فالقضية هي‏:‏ كل قول فيه نسبة بين شيئين بحيث يتبعه حكم صدق أو كذب والحملية منها‏:‏ كل قضية فيها النسبة المذكورة بين شيئين ليس في كل منهما هذه النسبة بين شيئين فيهما هذه النسبة من حيث هي مفصلة والمتصلة من الشرطية‏:‏ هي التي توجب أو تسلب لزوم قضية لأخرى من القضايا الشرطية والمنفصلة منها‏:‏ ما توجب أو تسلب عناد قضية لأخرى من القضايا الشرطية‏.‏

والإيجاب هو إيقاع هذه النسبة وإيجادها وفي الحملية هو الحكم بوجود محمول لموضوع والسلب هو رفع هذه النسبة الوجودية وفي الحملية هو الحكم بلا وجود محمول لموضوع‏.‏

والمحمول هو المحكوم به والموضوع هو المحكوم عليه‏.‏

والمخصوصة قضية حملية موضوعها شيء جزئي والمهملة قضية حملية موضوعها كلي ولكن لم يبين أن الحكم في كله أو في بعضه ولابد أنه في البعض وشك في أنه في الكل فحكمه حكم الجزئي والمحصورة هي التي موضوعها كلي والحكم عليه مبين أنه في كله أو بعضه وقد تكون موجبة وسالبة‏.‏

والسور هو اللفظ الذي يدل على مقدار الحصر ككل ولا واحد وبعض ولا كل‏.‏

والقضيتان المتقابلتان هما اللتان تختلفان بالسلب والإيجاب وموضوعهما ومحمولهما واحد‏:‏ في المعنى والإضافة والقوة والفعل والجزء والكل والمكان والزمان والشرط‏.‏

والتناقض هو التقابل بين قضيتين في الإيجاب والسلب تقابلاً يجب عنه لذاته أن يقتسما الصدق والكذب ويجب أن يراعى فيه الشرائط المذكورة‏.‏

والقضية البسيطة هي التي موضوعها ومحمولها اسم محصل والمعدولة هي التي موضوعها أو محمولها غير محصل كقولنا‏:‏ زيد هو غير بصير والعدمية هي التي محمولها أخس المتقابلين أي دل على عدم شيء من شأنه أن يكون للشيء أو لنوعه أو لجنسه مثل قولنا‏:‏ زيد جائر‏.‏

ومادة القضايا هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع يجب بها لا محالة أن يكون له دائماً في كل وقت في إيجاب أو سلب أو غير دائم له في إيجاب ولا سلب‏.‏

وجهات القضايا ثلاث‏:‏ واجب ويدل على دوام الوجود وممتنع ويدل على دوام العدم وممكن ويدل على لا دوام وجود ولا عدم‏.‏

والفرق بين الجهة والمادة‏:‏ أن الجهة لفظة مصرح بها تدل على أحد هذه المعاني والمادة حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها وربما تخالفاً كقولك زيد يمكن أن يكون حيواناً فالمادة واجبة والجهة ممكنة‏.‏

والممكن يطلق على معنين‏:‏ أحدهما ما ليس بممتنع وعلى هذا‏:‏ الشيء إما ممكن وإما ممتنع وهو الممكن العامي والثاني ما ليس بضروري في الحالتين أعني الوجود والعدم وعلى هذا‏:‏ الشيء إما واجب وإما ممتنع وإما ممكن وهو الممكن الخاصي‏.‏

ثم إن الواجب والممتنع بينهما غاية الخلاف مع إتفاقهما في معنى الضرورة فإن الواجب هو ضروري الوجود بحيث لو قدر عدمه لزم منه محال والممتنع ضروري العدم بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال والممكن الخاصي هو ما ليس بضروري الوجود والعدم‏.‏

والحمل الضروري على أوجه ستة تشترك كلها في الدوام‏:‏ الأول أن يكون الحمل دائماً لم يزل ولا يزال والثاني أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موجودة لم تفسد وهذان هما المستعملان والمرادان إذا قيل إيجاب أو سلب ضروري والثالث أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موصوفة بالصفة التي جعلت موضوعة معها والرابع أن يكون الحمل موجوداً وليس له ضرورة بلا هذا الشرط والخامس أن تكون الضرورة وقتاً ما معيناً لابد منه والسادس أن تكون الضرورة وقتاً ما غير معين‏.‏

ثم إن ذوات الجهة قد تتلازم طرداً وعكساً وقد لا تتلازم فواجب أن يوجد يلزمه‏:‏ ممتنع أن لا يوجد وليس يمكن بالمعنى العامي أن لا يوجد ونقائض هذه متعاكسة‏.‏

وقس عليه سائر الطبقات‏.‏

وكل قضية فإما ضرورية وإما ممكنة وإما مطلقة فالضرورية مثل قولنا‏:‏ كل ب أ بالضرورة‏:‏ أي كل واحد مما يوصف بأنه ب دائماً أو غير دائم فذلك الشيء دائماً ما دامت عين ذاته موجودة يوصف بأنه أ‏.‏

والممكنة هي التي حكمها من إيجاب أو سلب غير ضروري‏.‏

والمطلقة فيها رأيان‏:‏ أحدهما أنها التي لم يذكر فيها جهة ضرورة للحكم أو إمكان للحكم بل أطلق إطلاقاً والثاني ما يكون الحكم فيها موجوداً لا دائماً بل وقتاً ما وذلك الوقت إما ما دام الموضوع موصوفاً بما وصف به أو ما دام المحمول محكموماً به أو في وقت معين ضروري أو في وقت ضروري غير معين‏.‏

وأما العكس فهو تصيير الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً مع بقاء السلب والإيجاب بحالة والصدق والكذب بحالة والسالبة الكلية تنعكس مثل نفسها وأما السالبة الجزئية فلا تنعكس والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية والموجبة الجزئية تنعكس مثل نفسها‏.‏

في القياس ومبادئه وأشكاله ونتائجة‏:‏ المقدمة‏:‏ قول يوجب شيئاً لشيء أو يسلب شيئاً عن شيء‏:‏ جعلت جزء قياس‏.‏

والحد‏:‏ ما تنحل إليه المقدمة من جهة ما هي مقدمة‏.‏

والقياس‏:‏ هو قول مؤلف من أقوال إذا وضعت لزم عنها بذاتها قول آخر غيرها اضطراراً وإذا كان بيناً لزومه يسمى قياساً كاملاً وإذا احتاج إلى بيان فهو غير كامل‏.‏

والقياس ينقسم إلى اقتراني واستثنائي والاقتراني أن يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولاً فيه بالفعل بوجه ما والاستثنائي أن يكون ما يلزمه هو أو نقيضه مقولاً فيه بالفعل‏.‏

والاقتراني إنما يكون عن مقدمتين يشتركان في حد ويفترقان في حدين فتكون الحدود ثلاثة ومن شأن المشترك فيه أن يزول عن الوسط ويربط ما بين الحدين الآخرين فيكون ذلك هو اللازم ويسمى نتيجة فالمكرر يسمي حداً أوسط والباقيان طرفين والذي يريد أن يصير محمول اللازم يسمى الطرف الأكبر والذي يريد أن يكون موضوع اللازم يسمى الطرف الأصغر والمقدمة التي فيها الطرف الأكبر تسمى الكبرى والتي فيها الطرف الأصغر تسمى الصغرى وتأليف الصغرى والكبرى يسمى قرينة وهيئة الاقتران تسمى شكلاً والقرينة التي يلزم عنها لذاتها قول آخر تسمى قياساً واللازم ما دام لم يلزم بعد بل يساق إليه القياس يسمى مطلوباً وإذا لزم يسمى نتيجة‏.‏

والحد الأوسط إن كان محمولاً في مقدمة وموضوعاً في الأخرى يسمى ذلك الاقتران شكلاً أولاً وإن كان محمولاً فيهما يسمى شكلاً ثانياً وإن كان موضوعاً فيهما يسمى شكلاً ثالثاً‏.‏

وتشترك الأشكال كلها في أنه لا قياس عن جزئيتين وتشترك ما خلا الكائنة عن الممكنات في أنه لا قياس عن سالبتين ولا عن صغرى سالبة كبراها جزئية‏.‏

والنتيجة تتبع أخس المقدمتين في الكم والكيف‏.‏

وشريطة الشكل الأول أن تكون كبراه كلية وصغراه موجبة‏.‏

وشريطة الشكل الثاني أن تكون الكبرى فيه كلية وإحدى المقدمتين مخالفة للأخرى في الكيف ولا ينتج إذا كانت المقدمتان ممكنتين أو مطلقتين الإطلاق الذي لا ينعكس على نفسه كلتيهما وشريطة الشكل الثالث أن تكون الصغرى موجبة ثم لا بد من كلية في كل شكل‏.‏

وليرجع في المختلطات إلى تصانيفه‏.‏

وأما القياسات الشرطية بقضاياها فاعلم أن الإيجاب والسلب ليس يختص بالحمليات بل وفي الاتصال والانفصال فإنه كما أن الدلالة على وجود الحمل إيجاب في الحمل كذلك الدلالة على وجود الاتصال إيجاب في المتصل والدلالة على وجود الانفصال إيجاب في المنفصل وكذلك السلب وكل سلب فهو إبطال الإيجاب ورفعه‏.‏

وكذلك يجري فيهما الحصر والإهمال‏.‏

وقد تكون القضايا كثيرة والمقدمة واحدة‏.‏

والاقتران من المتصلات أن يجعل مقدم أحدهما تالي الآخر فيشتركان في التالي أو يشتركان في المقدم وكذلك على قياس الأشكال الحملية و الشرائط فيها واحدة والنتيجة شرطية تحصل من اجتماع المقدم والتالي اللذين هما كالطرفين‏.‏

والاقترانيات من المنفصلات فلا تكون في جزء تام بل تكون في جزء غير تام وهو جزء تال أو مقدم‏.‏

والاستثنائية مؤلفة من مقدمتين إحداهما شرطية والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيها ولا يجوز أن تكون حملية وشرطية وتسمى المستثناة‏.‏

والمستثناة من قياس فيه شرطية متصلة إن كان الاستثناء من المقدم فيجب أن يكون عين المقدم لينتج عين التالي وإن كان من التالي فيجب أن يكون نقيضه لينتج نقيض المقدم واستثناء نقيض المقدم وعين التالي لا ينتج شيئاً‏.‏

وأما إذا كانت الشرطية منفصلة فإن كانت ذات جزئين فقط موجبتين فأيهما استثنيت عينه أنتج نقيض الباقي وأيهما استثنيت نقيضه أنتج عين الباقي وأما القياسات المركبة فهي ما إذا حللت أفرادها كان ما ينتج كل واحد منها شيئاً آخر إلا أن نتائج بعضها مقدمات لبعض وكل نتيجة فإنها تستتبع عكسها وعكس نقيضها وجزاها وعكس جزئها إن كان لها عكس والمقدمات الصادقة تنتج نتيجة صادقة ولا ينعكس فقد تنتج المقدمات الكاذبة نتيجة صادقة‏.‏

والدور‏:‏ أن تأخذ النتيجة وعكس إحدى المقدمتين فتنتج المقدمة الثانية وإنما يمكن إذا كانت الحدود في المقدمات متعاكسة متساوية‏.‏

وعكس القياس‏:‏ هو أن تأخذ مقابل النتيجة بالضد أو النقيض وتضيفه إلى إحدى المقدمتين فينتج مقابل النتيجة الأخرى‏:‏ احتيالاً في الجدل‏.‏

وقياس الخلف‏:‏ هو الذي يبين فيه المطلوب من جهة تكذيب نقيضه فيكون هو بالحقيقة مركباً من قياس اقتراني وقياس استثنائي‏.‏

والمصادرة على المطلوب الأول‏:‏ هو أن يجعل المطلوب نفسه مقدمة في قياس يراد فيه إنتاجه وربما تكون في قياس واحد وربما تبين في قياسات وحيثما كان أبعد كان من القبول أقرب‏.‏

والاستقراء‏:‏ هو حكم على كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي إما كلها وإما أكثرها‏.‏

والتمثيل‏:‏ هو الحكم على شيء معين لوجود ذلك الحكم في شيء آخر معين أو أشياء على أن ذلك الحكم كلي على المتشابه فيه فيكون المحكوم عليه هو المطلوب والمنقول منه الحكم هو المثال والمعنى المتشابه فيه هو الجامع‏.‏

وحكم الرأي‏:‏ مقدمة محمودة كلية في أن كذا كائن أو غير كائن وصواب أم خطأ‏.‏

والدليل‏:‏ قياس إضماري حده الأوسط شيء إذا وجد للأصغر تبعه وجود شيء آخر للأصغر دائماً كيف كان ذلك التبع‏.‏

والقياس الفراسي شبيه بالدليل من وجه وبالتمثيل من وجه‏.‏

في مقدمات القياس من جهة ذواتها وشرائط البرهان‏:‏ المحسوسات هي أمور أوقع التصديق بها الحس والمجربات هي أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس والمقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول إما لأمر سماوي يختص به أو لرأي وفكر قوي تميز به والوهميات آراء أوجب اعتقادها قوة الوهم التابعة للحس والذائعات آراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها شهادة الكل والمظنونات آراء يقع التصديق بها لا على الثبات بل يخطر إمكان نقضها بالبال ولكن الذهن يكون إليها أميل والمتخيلات هي مقدمات ليست تقال ليصدق بها بل لتخيل شيئاً على أنه شيء آخر على سبيل المحاكات والأوليات هي قضايا تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب أوجب التصديق بها والبرهان قياس مؤلف من يقينيات لإنتاج يقيني‏.‏

واليقينيات‏:‏ إما أوليات وما جمع منها وإما تجربيات وإما محسوسات‏.‏

وبرهان اللم‏:‏ هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي في النتيجة في الوجود والذهن جميعاً‏.‏

وبرهان الإن‏:‏ هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق به والمطالب أربعة‏:‏ هل مطلقاً هو تعرف حال الشيء في الوجود أو العدم مطلقاً وهل مقيداً وهو تعرف وجود الشيء على حال ما أو ليس‏.‏

ما‏:‏ يعرف التصور وهو إما بحسب الاسم أي ما المراد باسم كذا وهذا يتقدم كل مطلب وإما بحسب الذات أي ما الشيء في وجوده وهو يعرف حقيقة الذات ويتقدمه الهل المطلق‏.‏

لم‏:‏ يعرف العلة بجواب هل وهو إما علة التصديق فقط وإما علة نفس الوجود‏.‏

وإما أي فهو بالقوة داخل في الهل المقيد وإنما يطلب التمييز إما بالصفات الذاتية وإما بالخواص‏.‏

والأمور التي يلتئم منها أمر البراهين ثلاثة‏:‏ موضوعات ومسائل ومقدمات‏.‏

فالموضوعات يبرهن فيها والمسائل يبرهن عليها والمقدمات يبرهن بها ويجب أن تكون صادقة يقينية ذاتية وتنتهي إلى مقدمات أولية مقولة على الكل كلية وقد تكون ضرورية إلا على الأمور المتغيرة التي هي في الأكثر على حكم ما فتكون أكثرية وتكون عللاً لوجود النتيجة فتكون مناسبة الحمل الذاتي يقال على وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون المحمول مأخوذاً في حد الموضوع والثاني أن يكون الموضوع مأخوذاً في حد المحمول‏.‏

المقدمة الأولية على وجهين‏:‏ أحدهما أن التصديق بها حاصل في أول العقل والثاني من جهة أن المناسب هو أن لا تكون المقدمات فيه من علم غريب‏.‏

الموضوعات هي التي توضع في العلوم فيبرهن على أعراضها الذاتية‏.‏

المسائل هي القضايا الخاصة بعلم علم المشكوك فيها المطلوب برهانها‏.‏

والبرهان يعطي حكم اليقين الدائم وليس في شيء من الفاسدات عقد دائم فلا برهان عليها ولا برهان أيضاً على الحد لأنه لا بد حينئذ من حد أوسط مساو للطرفين لأن الحد والمحدود متساويان وذلك الأوسط لا يخلو‏:‏ إما أن يكون حداً آخر أو يكون رسماً أو خاصة‏.‏

فأما الحد الآخر فإن السؤال في اكتسابه ثابت فإن اكتسب بحد ثالث فالأمر ذاهب إلى غير نهاية وإن اكتسب بالحد الأول فذلك دور وإن اكتسب بوجه آخر غير البرهان فلم لا يكتسب به هذا الحد على أنه لا يجوز أن يكون لشيء واحد حدان تامان على ما سنوضح بعد وإن كانت الواسطة غير حد فكيف صار ما ليس بحد أعرف وجوداً للمحدود من الأمر الذاتي المقوم له وهو الحد وأيضاً فإن الحد لا يكتسب بالقسمة فإن القسمة تضع أقساماً ولا تحمل من الأقسام شيئاً بعينه إلا أن يوضع وضعاً من غير أن يكون للقسمة فيه مدخل وأما استثناء نقيض قسم ليبقى القسم الداخل في الحد فهو إبانة الشيء بما هو مثله أو أخفى منه فإنك إذا قلت‏:‏ لكن ليس الإنسان غير ناطق فهو إذاً ناطق‏:‏ لم تكن أخذت في الاستثناء شيئاً أعرف من النتيجة وأيضاً فإن الحد لا يكتسب من حد الضد فليس لكل محدود ضد ولا أيضاً حد أحد الضدين أولى بذلك من حد الضد الآخر والاستقراء لا يفيد علماً كلياً فكيف يفيد الحد لكن الحد يقتنص بالتركيب وذلك بأن تعمد إلى الأشخاص التي لا تنقسم وتنظر من أي جنس هي من العشرة فتأخذ جميع المحولات المقومة لها التي في ذلك الجنس وتجمع العدة منها بعد أن تعرف أيها الأول وأيها الثاني فإذا جمعنا هذه المحولات ووجدنا منها شيئاً مساوياً للمحدود من وجهين فهو الحد‏:‏ أحدهما المساواة في الحمل والثاني المساواة في المعنى وهو أن يكون دالاً على كمال حقيقة ذاته لا يشذ منه شيء فإن كثيراً ما يميز الذات يكون قد أخل ببعض الأجناس أو ببعض الفصول فيكون مساوياً في الحمل ولا يكون مساوياً في المعنى وبالعكس ولا يلتفت في الحد إلى أن يكون وجيزاً بل ينبغي أن تضع الجنس القريب فيه باسمه أو بحده ثم تأتي بجميع الفصول الذاتية فإنك إذا تركت بعض الفصول فقد تركت بعض الذات‏.‏

والحد‏:‏ عنوان للذات وبيان لها فيجب أن يقوم في النفس صورة معقولة مساوية للصورة الموجودة بتمامها فحينئذ يعرض أن يتميز أيضاً المحدود ولا حد في الحقيقة لما لا وجود له وإنما ذلك قول يشرح الاسم فالحد إذاً‏:‏ قول دال على الماهية والقسمة معينة في الحد خصوصاً إذا كانت بالذاتيات ولا يجوز تعريف الشيء بما هو أخفى منه ولا بما هو مثله في الجلاء والخفاء ولا بما لا يعرف الشيء إلا به‏.‏

في الأجناس العشرة‏:‏ الجوهر‏:‏ هو ما وجود ذاته ليس في موضوع أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه بالفعل لا بتقويمه‏.‏

الكم‏:‏ هو الذي يقبل لذاته المساواة واللا مساواة والتجزؤ وهو إما أن يكون متصلاً إذ يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحد به كالنقطة للخط وإما أن يكون منفصلاً لا يوجد لأجزائه ذلك لا بالقوة ولا بالفعل كالعدد والمتصل قد يكون ذا وضع وقد يكون عديم الوضع وذو الوضع هو الذي يوجد لأجزائه اتصال وثبات وإمكان أن يشار إلى كل واحد منها‏:‏ أنه أين هو من الآخر فمن ذلك ما يقبل القسمة في جهة واحدة وهو الخط ومنه ما يقبل في جهتين متقاطعتين على قوائم وهو الشطح ومنه ما يقبل في ثلاث جهات قائم بعضها على بعض وهو الجسم‏.‏

والمكان أيضاً ذو وضع لأنه الشطح الباطن من الحاوي وأما الزمان فهو مقدار للحركة إلا أنه ليس من وضع إذ لا توجد أجزاؤه معاً وإن كان له اتصال إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف الآن وأما العدد فهو بالحقيقة الكم المنفصل‏.‏

ومن المقولات العشرة‏:‏ الإضافة وهي المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر وليس له وجود غيره مثل الأبوة بالقياس إلى النبوة لا كالأب فإن له وجوداً يخصه كالإنسانية‏.‏

وأما الكيف فهو كل هيئة قارة في جسم لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة للجسم إلى خارج ولا نسبة واقعة في أجزائه ولا لجملته اعتباراً يكون ذا جزء مثل البياض والسواد‏.‏

وهو إما أن يكون مختصاً بالكم من جهة ما هو كم كالتربيع بالسطح والاستقامة بالخط والفردية بالعدد وإما أن لا يكون مختصاً به‏.‏

وغير المختص به‏:‏ إما أن يكون محسوساً تنفعل عنه الحواس ويوجد بانفعال الممتزجات فالراسخ منه مثل صفرة الذهب وحلاوة العسل يسمى كيفيات انفعاليات وسريع الزوال منه وإن كان كيفية بالحقيقة فلا يسمى كيفية ومنه ما لا يكون محسوساً‏:‏ فإما أن يكون استعدادات إنما تتصور في النفس بالقياس إلى كمالات فإن كل استعداد للمقاومة وإباء للانفعال سمي قوة طبيعية كالمصحاحية والصلابة وإن كان استعداداً لسرعة الإذعان والانفعال سمي‏:‏ لا قوة طبيعية مثل الممراضية واللين‏.‏

وإما أن تكون في أنفسها كمالات لا يتصور أنها استعدادت لكمالت أخرى وتكون مع ذلك غير محسوسة بذاتها فما كان ثابتاً منها يسمى ملكة مثل العلم والصحة وما كان سريع الزوال سمي حالاً مثل غضب الحليم ومرض المصحاح‏.‏

وفرق بين الصحة والمصحاحية فإن المصحاح قد لا يكون صحيحاً والممراض قد يكون صحيحاً‏.‏

ومن جملة العشرة‏:‏ الأين وهو كون الجوهر في مكانه الذي يكون فيه‏:‏ ككون زيد في السوق ومتى وهو كون الجوهر في زمانه الذي يمون فيه مثل كون هذا الأمر أمس والوضع وهو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان إن كان في مكان مثل القيام والقعود وهو في المعنى غير الوضع المذكور في باب الكم والملك ولست أحصله ويشبه أن يكون‏:‏ كون الجوهر في جوهر يشمله وينتقل بانتقاله مثل التلبس والتسلح والفعل وهو نسبة الجوهر إلى أمر موجود منه في غيره غير قار الذات بل لا يزال يتجدد ويتصرم كالتسخين والتبريد والانفعال وهو نسبة الجوهر إلى حالة فيه بهذه الصفة مثلا لتقطع والتسخن‏.‏

والعلل أربع‏:‏ يقال علة للفاعل ومبدأ الحركة مثل النجار للكرسي ويقال علة للمادة وما يحتاج أن يكون حتى تكون ماهية الشيء مثل الخشب ويقال علة للصورة في كل شيء يكون فإنه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكون ويقال علة للغاية والشيء الذي نحوه ولأجله الشيء مثل الكن للبيت‏.‏

وكل واحدة من هذه إما قريبة أو بعيدة وإما بالقوة أو بالفعل وإما بالذات وإما بالعرض وإما خاصة أو عامة‏.‏

والعلل الأربع قد تقع حدوداً وسطى في البراهين لإنتاج قضايا محمولاتها أعراض ذاتية‏.‏

وأما العلتان الفاعلية والقابلية فلا يجب من وضعهما وضع المعلول وإنتاجه ما لم يقترن بذلك ما يدل على صيرورتهما علة بالفعل‏.‏

والله الموفق‏.‏

في تفسير ألفاظ يحتاج إليها المنطقي‏:‏ الظن‏:‏ الحق أنه‏:‏ رأى في شيء أنه كذا ويمكن أن لا يكون كذا‏.‏

والعلم‏:‏ اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا بواسطة توجبه والشيء كذلك في ذاته وقد يقال علم لتصور الماهية بتحديد‏.‏

والعقل‏:‏ اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا طبعاً بلا واسطة كاعتقاد المبادئ الأولى للحد‏.‏

وألذه‏:‏ قوة للنفس معدة نحو اكتساب العلم‏.‏

والذكاء‏:‏ قوة استعداد لحدس‏.‏

والحدس حركة النفس إلى إصابة الحد الأوسط إذا وضع المطلوب أو إصابة الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط وبالجملة سرعة انتقال الذهن من معلوم إلى مجهول‏.‏

والحس‏:‏ إنما يدرك الجزئيات الشخصية‏.‏

والذكر والخيال‏:‏ يحفظان ما يؤديه الحس على شخصيته أما الخيال فيحفظ الصورة وأما الذكر فيحفظ المعنى المأخوذ وإذا تكرر الحس صار ذكراً وإذا تكرر الذكر كان تجربة‏.‏

والفكر‏:‏ حركة ذهن الإنسان نحو المبادئ ليصير منها إلى المطالب‏.‏

والصناعة‏:‏ ملكة نفسانية تصدر عنها أفعال إرادية بغير روية‏.‏

والحكمة‏:‏ خروج النفس الإنساني إلى كماله الممكن في جزأي العلم والعمل‏:‏ أما في جانب العلم فأن يكون متصوراً للموجودات كما هي ومصدقاً للقضايا كما هي وأما في جانب العمل فأن يكون قد حصل له الخلق الذي يسمى العدالة والملكة الفاضلة‏.‏

والفكر العقلي ينال الكليات مجردة والحس والخيال على العقل ثم العقل يفعل التمييز‏.‏

ولكل واحد من هذه المعاني معونة في صواحبها في قسمي‏:‏ التصور والتصديق‏.‏

يجب أن نحصر المسائل التي تختص بهذا العلم في عشر مسائل‏:‏ المسألة الأولى منها‏:‏ في موضوع هذا العلم وجملة ما يتظر فيه والتنبيه على الوجود وأقسامه‏.‏

إن لكل علم موضوعاً ينظر فيه فيبحث عن أحواله وموضوع العلم الإلهي هو الوجود المطلق ولو أحقه التي له بذاته ومبادئه وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم وفيه بيان مبادئها‏.‏

وجملة ما ينظر فيه هذا العلم هو أقسام الوجود وهي‏:‏ الواحد والكثير ولواحقهما والعلة والمعلول والقديم والحادث والتام والناقص والفعل والقوة وتحقيق المقولات العشر‏:‏ ويشبه أن يكون انقسام الوجود إلى المقولات انقساماً بالفصول وانقسامه إلى الوحدة والكثرة وأخواتهما انقساماً بالأعراض‏.‏

والوجود يشمل الكل شمولاً بالتشكيك لا بالتواطؤ ولهذا لم يصلح أن يكون جنساً فإنه في بعضها أولى وأول وفي بعضها لا أولى ولا أول وهو أشهر من أن يحد أو يرسم ولا يمكن أن يشرح بغير الاسم لأنه مبدأ أول لكل شئ فلا شرح له بل صورته تقوم في النفس بلا توسط شئ‏.‏

وينقسم نوعاً من القسمة إلى واجب بذاته وممكن بذاته والواجب بذاته ما إذا اعتبر ذاته فقط وجب وجوده والممكن بذاته ما إذا اعتبر لذاته لم يجب وجوده وإذا فرض غير موجود لم يلزم منه محال‏.‏

ثم إذا عرض على القسمين عرضاً حملياً الواحد والكثير كان الواحد أولى بالواجب والكثير أولى بالجائز وكذلك العلة والمعلول والقديم والحادث والتام والناقص والفعل والقوة والغنى والفقر‏.‏

كان أحسن الأسماء أولى بالواجب بذاته ولما لم تتطرق إليه الكثرة بوجه لم يتتطرق إليه التقسيم بل توجه إلى الممكن بذاته فانقسم إلى جوهر وعرض وقد عرفناهما برسميهما‏.‏

وأما نسبة أحدهما إلى الآخر فهو أن الجوهر محل مستغن في قوامه عن الحال فيه والعرض حال فيه غير مستغن في قوامه عنه فكل ذات لم تكن في موضوع ولا قوامها به فهو جوهر وكل ذات قوامها في موضوع فهو عرض‏.‏

وقد يكون الشيء في المحل ويكون مع ذلك جوهراً لا في موضوع إذا كان المحل القريب الذي هو فيه متقوماً به وليس متقوماً بذاته ثم مقوماً له ونسميه صورة وهذا هو الفرق بينهما وبين العرض‏.‏

وكل جوهر ليس في موضوع فلا يخلو‏:‏ إما أن لا يكون في محل أصلاً أو يكون في محل لا يستغنى في القوام عنه ذلك المحل‏.‏

فإن كان في محل بهذه الصفة فإنا نسميه صورة مادية وإن لم يكن في محل أصلاً فإما أن يكون محلاً بنفسه لا تركيب فيه أولا يكون فإن كان محلاً بنفسه فإنا نسميه الهيولى المطلقة وإن يكن فإما أن يكون مركباً مثل أجسامنا المركبة من مادة ومن صورة جسمية وإما أن لا يكون‏.‏

وما ليس بمركب فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون له تعلق ما بالأجسام أو لم يكن له تعلق فما له تعلق نسميه نفساً وما ليس له تعلق فنسميه عقلاً‏.‏

وأما أقسام العرض فقد ذكرناها وحصرها بالقسمة الضرورية متعذر‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه وأن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة وأن الصورة متقدمة على المادة في مرتبة الوجود‏.‏

اعلم أن الجسم ليس جسماً بأن فيه أبعاداً ثلاثة بالفعل فإنه ليس يجب أن يكون في كل جسم نقط أو خطوط بالفعل وأنت تعلم أن الكرة لا قطع فيها بالفعل والنقط والخطوط قطوع‏.‏

بل الجسم إنما هو جسم لأنه بحيث يصلح أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة كل واحد منها قائم على الآخر ولا يمكن أن تكون فوق ثلاثة فالذي يفرض فيه أولاً هو الطول والقائم عليه العرض والقائم عليهما في الحد المشترك هو العمق وهذا المعنى منه هو صورة الجسمية‏.‏

وأما الأبعاد المحدودة التي تقع فيه فليست صورة له بل هي من باب الكم وهي لواحق لا مقومات ولا يجب أن يثبت شيء منها له بل مع كل تشكيل يتجدد عليه يبطل كل بعد متحدد كان فيه وربما اتفق في بعض الأجسام أن تكون لازمة له لا تفارق ملازمة أشكالها وكما أن الشكل لاحق فكذلك ما يتحدد بالشكل وكما أن الشكل لا يدخل في تحديد جسميته فكذلك الأبعاد المتحددة فالصورة الجسمية موضوعة لصناعة الطبيعيين أو داخله فيها والأبعاد المتحددة موضوعة لصناعة التعالميين أو داخلة فيها‏.‏

ثم الصورة الجسمية طبيعة وراء الاتصال يلزمها الاتصال وهي بعينها قابلة للانفصال‏.‏

ومن المعلوم أن قابل الاتصال والانفصال أمر وراء الاتصال والانفصال فإن القابل يبقى بطريان أحدهما والاتصال لا يبقى بعد طريان الانفصال‏.‏

وظاهر أن هنا جوهراً غير الصورة الجسمية هو الهيولى الذي يعرض لها الانفصال والاتصال معاً وهي تقارن الصورة الجسمية فهي التي تقبل الاتحاد بالصورة الجسمية فتصير جسماً واحداً بما يقومها وذلك هو الهيولى أو المادة‏.‏

والمادة لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية وتقوم موجودة بالفعل‏:‏ والدليل عليه من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنا لو قدرناها مجردة لا وضع لها ولا حيز ولا أنها تقبل الانقسام فإن هذه كلها صور ثم قدرنا أن الصورة صادقتها‏:‏ فإما أن تكون صادقتها دفعة أعني المقدار المحصل يحل فيها دفعة لا على تدريج أو تحرك إليها المقدار والاتصال على تدريج‏.‏

فإن حل فيها دفعة ففي اتصال المقدار بها يكون قد صادفها حيث انضاف إليها فيكون لا محالة صادفها وهو في الحيز الذي هو فيه فيكون ذلك الجوهر متحيزاً وقد فرض غير متحيز البتة‏.‏

وهذا خلف‏.‏

ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة واحدة مع قبول المقدار ولأن المقدار يوافيه في حيز مخصوص وإن حل فيها المقدار والاتصال على انبساط وتدريج وكل ما من شأنه أن ينبسط فله جهات وما له جهات فهو ذو وضع فيكون ذلك الجوهر ذا وضع وقد فرض غير ذي وضع البتة‏.‏

وهذا خلف‏.‏

فتعين أن المادة لن تتعرى عن الصورة قط وأن الفصل بينهما فصل بالعقل فقط‏.‏

والدليل الثاني‏:‏ أنا لو قدرنا للمادة وجوداً خاصاً متقوماً غير ذي كم ولا جزء باعتبار نفسه ثم يعرض عليه الكم فيكون ما هو متقوم بأنه لا جزء له ولا كم يعرض أن يبطل عنه ما يتقوم به بالفعل لو رود عارض عليه فيكون حينئذ للمادة صورة عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل وصورة أخرى بها تكون غير واحدة بالفعل فيكون بين الأمرين شيء مشترك هو القابل للأمرين من شأنه أن يصير مرة ليس في قوته أن ينقسم ومرة في قوته أن ينقسم‏.‏

ولنفرض الآن أن هذا الجوهر قد صار بالفعل أثنين ثم صارا شيئاً واحداً بأن خلعا صورة الأثنينية فلا يخلو‏:‏ أما إن اتحدا وكل واحد منهما موجود فهما اثنان لا واحد وإن اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود وإن عدما جميعاً بالاتحاد وحدث شيء واحد ثالث فهما غير متحدين بل فاسدان وبينهما وبين الثالث مادة مشتركة وكلامنا في نفس المادة لا في شيء ذي مادة فالمادة الجسمية لا توجد مفارقة للصورة وإنها إنما تقوم بالفعل بالصورة‏.‏

ولا يجوز أن يقال‏:‏ إن الصورة بنفسها موجودة بالقوة وإنما تصير بالفعل بالمادة لأن جوهر الصورة هو الفعل وما بالقوة محله المادة والصورة وإن كانت لا تفارق الهيولى فليست تقوم بالهيولى بل بالعلة المفيدة إياها للهيولى وكيف يتصور أن تقوم الصورة بالهيولى وقد أثبت أنها علتها والعلة لا تتقوم بالمعلول وفرق بين الذي يتقوم به الشيء وبين الذي لا يفارقه فإن المعلول لا يفارق العلة وليس علة لها‏.‏

فما يقوم الصورة أمر مباين لها مفيد الوجود وما يقوم الهيولى أمر ملاق لها وهو الصورة‏.‏

وأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغير المجسم الذي يعطي صورة الجسم وصورة كل موجود ثم الصورة ثم الجسم ثم الهيولى وهي وإن كانت سبباً للجسم فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بل سبب يقبل الوجود فإنه محل لنيل الوجود وللجسم وجودها وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها‏.‏

ثم العرض أولى بالوجود فإن أولى الأشياء بالوجود هو الجوهر ثم الأعراض وفي الأعراض ترتيب في الوجود أيضاً‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ في أقسام العلل وأحوالها وفي القوة والفعل وفي إثبات الكيفيات في الكمية وإن الكيفيات أعراض لا جواهر‏.‏

وقد بينا في المنطق أن العلل أربع وتحقيق وجودها ههنا أن نقول‏:‏ المبدأ والعلة يقال لكل ما يكون قد استتم له وجوده في نفسه ثم حصل منه وجود شيء آخر ونقوم به ثم لا يخلو ذلك‏:‏ إما أن يكون كالجزء لما هو معلول له وهذا على وجهين‏:‏ إما أن يكون جزءاً ليس يجب عن حصوله بالفعل أن يكون ما هو معلول له موجوداً بالفعل وهذا هو العنصر ومثاله الخشب للسرير فإنك تتوهم الخشب موجوداً ولا يلزم من وجوده وحده أن يحصل السرير بالفعل بل المعلول موجود فيه بالقوة‏.‏

وإما أن يكون جزءاً يجب عن حصوله بالفعل وجود المعلول له بالفعل وهذا هو الصورة ومثاله الشكل والتأليف للسرير‏.‏

وإن لم يكن كالجزء لما هو معلول له‏:‏ فإما أن يكون مبايناً أو ملاقياً لذات المعلول والملاقى‏:‏ فإما أن ينعت به المعلول وإما أن ينعت بالمعلول وهذان هما في حكم الصورة والهيولى‏.‏

وإن كان مبايناً‏:‏ فإما أن يكون الذي منه الوجود وليس الوجود لأجله وهو الفاعل وإما أن لا يكون منه الوجود بل لأجله الوجود وهو الغاية‏.‏

والغاية تتأخر في حصول الوجود وتتقدم سائر لعلل في السببية وفرق بين السببية والوجود في الأعيان فإن المعنى له وجود في الأعيان ووجود في النفس وأمر مشترك وذلك الأمر المشترك هو السببية والغاية بما هي سبب فإنها تتقدم وهي علة العلل في أنها علل وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر وإذا لم تكن العلة الفاعلية هي بعينها الغاية‏.‏

كان الفاعل متأخراً في السببية عن الغاية‏.‏

ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول والمحرك الأول في كل شيء هو الغاية وإن كانت العلة الفاعلية هي الغاية بعينها استغنى عن تحريك الغاية فكان نفس ما هو فاعل نفس ما هو محرك من غير توسط‏.‏

وأما سائر العلل فإن الفاعل والقابل قد يتقدمان المعلول بالزمان‏.‏

وأما الصورة فلا تتقدم بالزمان البتة بل بالرتبة والشرف لأن القابل أبداً مستفيد والفاعل مفيد‏.‏

وقد تكون العلة علة للشيء بالذات‏.‏

وقد تكون بالعرض‏.‏

وقد تكون علة قريبة وقد تكون علة بعيدة وقد تكون علة لوجود الشيء فقط وقد تكون علة لوجوده ولدوام وجوده فإنه إنما يحتاج إلى الفاعل لوجوده وفي حال وجوده لا لعدمه السابق وفي حال عدمه فيكون الموجد الذي هو موجد للوجود والموجود هو الذي يوصف بأنه موجد فكما أنه في حال ما هو موجود يوصف بأنه موجد كذلك الحال في كل حال فكل موجد محتاج إلى موجد مقيم لوجوده لولاه لعدم‏.‏

وأما القوة والفعل فالقوة تقال لمبدأ التغير في آخر من حيث إنه آخر وهو إما في المنفعل وهي القوة الانفعالية وإما في الفاعل وهي القوة الفعلية‏:‏ وقوة المنفعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة الماء على قبول الشكل دون قوة الحفظ وفي الشمع قوة عليهما جميعاً وفي الهيولى الأولى قوة الجميع ولكن بتوسط شيء دون شيء وقوة الفاعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة النار على الإحراق فقط وقد تكون على أشياء كثيرة كقوة المختارين وقد يكون في الشيء قوة على شيء ولكن بتوسط شيء دون شيء والقوة الفعلية المحدودة إذا لاقت القوة المنفعلة حصل منها الفعل ضرورة وليس كذلك في غيرها مما يستوي فيه الأضداد وهذه القوة ليست هي التي يقابلها لما بالفعل فإن هذه تبقى موجودة عندما يفعل والثانية إنما تكون موجودة مع عدم الفعل‏.‏

وكل جسم صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر فإنه يفعل بقوة ما فيه أما الذي بالإرادة والاختيار فظاهر وأما الذي ليس بالاختيار فلا يخلو‏:‏ إما أن يصدر عن ذاته بما هو ذاته أو عن قوة في ذاته أو عن شيء مباين فغن صدر عن ذاته بما هو جسم فيجب أن تشاركه سائر الأجسام وإذا تميز عنها بصدور ذلك الفعل عنه فلمعنى في ذاته زائد على الجسمية وإن صدر عن شيء مباين فلا يخلو إما أن يكون جسماً أو غير جسم فإن كان جسماً فالفعل عنه بقسر لا محالة وقد فرض بلا قسر هذا خلف‏.‏

وإن لم يكن جسماً فتأثر الجسم عن ذلك المفارق غما أن يكون لكونه جسماً أو لقوة فيه ولا يجوز أن يكون بكونه جسماً وقد أبطلناه فتعين أنه لقوة فيه هي مبدأ صدور ذلك الفعل عنه وذلك هو الذي نسميه القوة الطبيعية وهي التي تصدر عنها الأفاعيل الجسمانية من التحيزات إلى أماكنها والتشكيلات الطبيعية وإذا خليت وطباعها لم يجز أن يحدث منها زوايا مختلفة بل ولا زاوية فيجب أن تكون كرة وإذا صح وجود الكرة صح وجود الدائرة‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ في المتقدم والمتأخر والقديم والحادث وإثبات المادة لكل متكون‏.‏

التقدم قد يقال بالطبع وهو أن يوجد الشيء وليس الآخر بموجود ولا يوجد الآخر إلا وهو موجود كالواحد والاثنين وقد يقال بالزمان كتقدم الأب على الابن ويقال بالرتبة وهو الأقرب إلى المبدأ الذي عين كالمتقدم في الصف الأول أن يكون أقرب إلى الإمام ويقال بالكمال والشرف كتقدم العالم على الجاهل ويقال بالعلية لأن للعلة استحقاقاً للوجود قبل المعلول وهما بما هما ذاتان ليس يلزم فيهما خاصية التقدم والتأخر ولا خاصية المعية ولكن بما متضايفان وعلة ومعلول وإن أحدهما لم يستفد الوجود من الآخر والآخر استفاد الوجود منه فلا محالة كان المفيد متقدماً والمستفيد متأخراً بالذات‏.‏

وإذا رفعت العلة ارتفع المعلول لا محالة وليس إذا ارتفع المعلول ارتفعت بارتفاعه العلة بل إن صح فقد كانت العلة ارتفعت أولى بعلة أخرى حتى ارتفع المعلول‏.‏

واعلم بأن الشيء إذا كان كما يكون محدثاً بحسب الزمان كذلك قد يكون محدثاً بحسب الذات فإن الشيء إذا كان له في ذاته أن لا يجب له وجود بل هو باعتبار ذاته ممكن الوجود مستحق للعدم لولا علته‏.‏

والذي بالذات يجب وجوده قبل الذي من غير الذات فيكون لكل معلول في ذاته أولاً أنه ليس تم عن العلة وثانياً أنه أيس فيكون كل معلول محدثاً‏:‏ أي مستفيداً الوجود من غيره وإن كان مثلاً في جميع الزمان موجوداً مستفيداً لذلك الوجود عن موجد فهو محدث لأن وجوده من بعد لا وجوده بعدية بالذات وليس حدوثه إنما هو آن من الزمان فقط بل هو محدث في الدهر كله ولا يمكن أن يكون حادثاً بعد ما لم يكن في زمانه إلا وقد تقدمت المادة فإنه قبل وجوده ممكن الوجود وإمكان الوجود إما أن يكون معنى معدوماً أو معنى موجوداً ومحال أن يكون معدوماً فإن المعدوم قبل والمعدوم مع‏:‏ واحد وهو قد سبقه الإمكان والقبل المعدوم موجود مع وجوده فهو إذاً معنى موجود وكل معنى موجود فإما قائم لا في موضوع أو قائم في موضوع وكل ما هو قائم لا في موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافاً وإمكان الوجود إنما هو وا ه وبالإضافة إلى ما هو إمكان وجود له فهو إذاً معنى في موضوع وعارض لموضوع‏.‏

ونحن نسميه قوة الوجود ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه قوة وجود الشيء موضوعاً وهيولى ومادة وغير ذلك‏.‏

فإذاً‏:‏ كل حادث فقد تقدمته المادة كما تقدمه الزمان‏.‏

المسالة الخامسة‏:‏ في الكلي والواحد ولواحقهما‏.‏

قال‏:‏ المعنى الكلي بما هو طبيعة ومعنى كالإنسان بما هو إنسان شيء وبما هو واحد أو كثير خاص أو عام شيء آخر بل هذه المعاني عوارض تلزمه لا من حيث هو إنسان بل من حيث هو في الذهن أو في الخارج‏.‏

وإذا قد عرفت ذلك فقد يقال كلي للإنسانية بلا شرط وهو بهذا الاعتبار موجود بالفعل في الأشياء وهو محمول على كل واحد لا على أنه واحد بالذات ولا على أنه كثير‏.‏

وقد يقال كلي للإنسانية بشرط أنها مقولة على كثيرين وهو بهذا الاعتبار ليس موجوداً بالفعل في الأشياء‏.‏

فبين ظاهر أن الإنسان الذي اكتنفته الأعراض المشخصة لم تكتنفه أعراض شخص آخر حتى يكون ذلك بعينه في شخص زيد وعمرو فلا كلي عام في الوجود بل الكلي العام بالفعل إنما هو في العقل وهو الصورة التي في العقل كنقش واحد تنطبق عليه صورة وصورة‏.‏

ثم الواحد يقال لما هو منقسم من الجهة التي قيل له منها أنه واحد ومنه ما لا ينقسم في الجنس ومنه ما لا ينقسم في النوع ومنه ما لا ينقسم بالعرض العام كالغراب والقار في السود ومنه ما لا ينقسم بالمناسبة كنسبة العقل إلى النفس‏.‏

ومنه ما لا ينقسم في العدد ومنه ما لا ينقسم في الحد‏.‏

والواحد بالعدد‏:‏ إما أن يكون فيه كثرة بالفعل فيكون واحداً بالتركيب والاجتماع وإما أن لا يكون ولكن فيه كثرة بالقوة فيكون واحداً بالاتصال وإن لم يكن فيه ذلك فهو الواحد بالعدد على الإطلاق‏.‏

والكثير يكون على الإطلاق وهو العدد الذي بازاء الواحد كما ذكرنا والكثير بالإضافة هو الذي يترتب بإزائه القليل فأقل العدد اثنان‏.‏

وأما لواحق الواحد‏:‏ فالمشابهه وهي اتحاد في الكيفية والمساواة وهي اتحاد في الكمية والمجانسة اتحاد في الجنس والمشاكلة اتحاد في النوع والموازاة اتحاد في وضع الأجزاء والمطابقة اتحاد في الأطراف واللهو هو حال بين اثنين جعلا اثنين في الوضع يصير بها بينهما اتحاد بنوع ما ويقابل كل واحد منهما من باب الكثير مقابل‏.‏

المسألة السادسة‏:‏ في تعريف واجب الوجود بذاته وأنه لا يكون بذاته وبغيره معاً وانه لا كثرة في ذاته بوجه وإنه خير محض وحق محض وأنه واحد من وجوه شتى ولا يجوز أن يكون اثنان واجبي الوجود وفي إثبات واجب الوجود بذاته‏.‏

قال‏:‏ واجب الوجود معناه أنه ضروري الوجود وممكن الوجود معناه أنه ليس فيه ضرورة لا في وجوده ولا في عدمه‏.‏

ثم إن واجب الوجود قد يكون بذاته وقد لا يكون بذاته‏.‏

والقسم الأول هو الذي وجوده لذاته لا لشيء آخر والثاني هو الذي وجوده لشيء آخر أي شيء كان ولوضع ذلك الشيء صار واجب الوجود مثل الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها ولكن عند وضع أثنين واثنين ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معاً فإنه إن رفع ذلك الغير لم يخل‏:‏ إما أن يبقى وجوب وجوده أو لم يبق فإن بقي فلا يكون واجباً بغيره وإن لم يبق فلا يكون واجباً بذاته فكل ما هو واجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته فإن وجوب وجوده تابع لنسبة ما وهي اعتبار غير اعتبار نفس ذات الشيء فاعتبار الذات وحدها‏:‏ إما أن يكون مقتضياً لوجوب الوجود وقد أبطلناه وإما أن يكون مقتضياً لامتناع الوجود وما امتنع بذاته لم يوجد بغيره وإما أن يكون مقتضياً لإمكان الوجود وهو الباقي‏.‏

وذلك إنما يجب وجوده بغيره لأنه إن لم يجب كان بعد ممكن الوجود لم يترجح وجوده على عدمه ولا يكون بين هذه الحالة والأولى فرق فإن قيل‏:‏ تجددت حالة فالسؤال عنها كذلك‏.‏

ثم واجب الوجود بذاته لا يجوز لذاته مبادئ تجتمع فيتقوم منها واجب الوجود‏:‏ لا أجزاء كمية ولا أجزاء حد سواء كانت كالمادة والصورة أو كانت على وجه آخر بأن تكون أجزاء القول الشارح لمعنى اسمه‏:‏ يدل كل واحد منها على شيء هو في الوجود غير الآخر بذاته وذلك لأن كل ما هذا صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر ولا ذات المجتمع وقد وضح أن الأجزاء بالذات أقدم من الكل فتكون العلة الموجبة للوجود علة للأجزاء ثم للكل ولا يكون شيء منها بواجب الوجود‏.‏

وليس يمكننا أن نقول‏:‏ إن الكل أقدم بالذات من الأجزاء فهو إما متأخر وإما معاً فقد اتضح أن واجب الوجود ليس بحسم ولا مادة في جسم ولا صورة في جسم ولا مادة معقولة لقبول صورة معقولة ولا صورة معقولة في مادة معقولة ولا قسمة له‏:‏ لا في الكم ولا في المبادئ ولا في القول فهو واجب الوجود في جميع جهاته إذ هو واحد من كل وجه فلا جهة وجهة‏.‏

وأيضاً فإن قدر أن يكون واجباً من جهة ممكناً من جهة كان إمكانه متعلقاً بواجب فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقاً فينبغي أن يتفطن من هذا لأن واجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود له منتظر بل كل ما هو ممكن له فهو واجب له فلا له إرادة منتظرة ولا علم منتظر ولا طبيعة ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة وهو خير محض وكمال محض‏.‏

والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجود كل شيء والشر لا ذات له بل هو إما عدم جوهر أو عدم صلاح حال للجوهر فالوجود خيرية وكمال الوجود كمال الخيرية والوجود الذي لا يقارنه عدم لا عدم جوهر ولا عدم حال للجوهر بل هو دائم بالفعل فهو خير محض والممكن بذاته ليس خيراً محضاً لأن ذاته تحتمل العدم وواجب الوجود هو حق محض لأن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له فلا أحق إذاً من واجب الوجود‏.‏

وقد يقال حق أيضاً لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً فلا أحق بهذه الصفة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً ومع صدقه دائماً ومع دوامه لذاته لا لغيره‏.‏

وهو واحد محض لأنه لا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته لأن وجود نوعه له بعينه‏:‏ إما أن تقتضيه ذات نوعه أو لا تقتضيه ذات نوعه بل تقتضيه علة فإن كان وجود نوعه مقتضى ذات نوعه لم يوجد إلا له وإن كان لعلة فهو معلول فهو إذاً تام في وحدانيته وواحد من جهة تمامية وجوده وواحد من جهة أن حده له وواحد من جهة أنه لا ينقسم إلا بالكم ولا بالمبادئ المقومة له ولا بأجزاء الحد وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة محضة وبها كمال حقيقته الذاتية وواحد من جهة أن مرتبته من الوجود وهو وجوب الوجود ليس إلا له فلا يجوز إذاً أن يكون أيمان كل واحد منهما واجب الوجود بذاته فيكون وجوب الوجود مشتركاً فيه على أن يكون جنساً أو عارضاً ويقع الفصل بشيء آخر إذ يلزم التركيب في ذات كل واحد منهما‏.‏

بل ولا تظن أنه موجود وله ماهية وراء الوجود كطبيعة الحيوان واللون مثلاً الجنسين اللذين يحتاجان إلى فصل وفصل حتى يتقررا في وجودهما لأن تلك الطبائع معلولة وإنما يحتاجان لا في نفس الحيوانية واللونية المشتركة بل في الوجود‏.‏

وههنا‏:‏ فوجوب الوجود هو الماهية وهو مكان الحيوانية التي لا تحتاج إلى فصل في أن يكون حيواناً بل في أن يكون موجوداً‏.‏

ولا تظن أن واجبي الوجود لا يشتركان في شيء ما كيف وهما يشتركان في وجوب الوجود ويشتركان في البراءة عن الموضوع فإن كان واجب الوجود يقال عليهما بالاشتراك فكلامنا ليس في منع كثرة اللفظ والاسم بل في معنى واحد من معاني ذلك الاسم وإن كان بالتباطؤ فقد حصل معنا عام عموم لازم أو عموم جنس وقد بينا استحالة هذا‏.‏

وكيف يكون عموم وجوب الوجود لشيئين على سبيل اللوازم التي تعرض من خارج واللوازم معلولة وإما إثبات واجب الوجود فليس يمكن إلا ببرهان إن وهو الاستدلال الممكن على الواجب فنقول‏:‏ كل جملة من حيث أنها جملة سواء كانت متناهية أو غير متناهية إذا كانت مركبة من ممكنات فإنها لا تخلو‏:‏ إما أن تكون واجبة بذاتها أو ممكنة بذاتها فإن كانت واجبة الوجود بذاتها وكل واحد منها ممكن الوجود يكون واجب الوجود يتقوم ببمكنات الوجود هذا خلف‏.‏

وإن كانت ممكنة الوجود بذاتها فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد للوجود فإما أن يكون المفيد خارجاً عنها أو داخلاً فيها فإن كان داخلاً فيها فيكون واحداً منها واجب الوجود وكائن كل واحد منها ممكن الوجود هذا خلف‏.‏

فتعين أن المفيد يجب أن يكون خارجاً عنها وذلك هو المطلوب‏.‏

المسألة السابعة‏:‏ في أن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول وأنه يعقل ذاته والأشياء وصفاته قال‏:‏ العقل يقال على كل مجرد عن المادة وإذا كان مجرداً بذاته عن المادة فهو عقل لذاته واجب الوجود مجرد بذاته عن المادة فهو عقل لذاته‏.‏

وبما يعتبر له أن هويته مجردة لذاته فهو معقول لذاته وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة فهو عاقل لذاته وكونه عاقلاً ومعقولاً لا يوجب أن يكون اثنين في الذات ولا اثنين في الاعتبار فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا أنه له ماهية مجردة وأنه ماهية مجردة ذاته له وههنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني في عقولنا والغرض المحصل هو شيء واحد‏.‏

وكذلك عقلنا لذاتنا هو نفس الذات وإذا عقلنا شيئاً فلسنا نعقل أن نعقل بعقل آخر لأن ذلك يؤدي إلى التسلسل‏.‏

ثم لما لم يكن جمال وبهاء فوق جمال وبهاء لماهية عقلية صرفة وخيرية محضة بريئة عن المواد وأنحاء النقص واحدة من كل جهة ولم يسلم ذلك بكنهه إلا لواجب الوجود فهو الجمال المحض والبهاء المحض وكل جمال وبهاء وملائم وخير فهو محبوب معشوق وكلما كان الإدراك أشد اكتناهاً والمدرك أجمل ذاتاً فحب القوة المدركة له وعشقها له والتذاذها به كان أشد وأكثر فهو أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك وهو عاشق لذاته ومعشوق لذاته عشق من غيره أو لم يعشق‏.‏

وأنت تعلم أن إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس لأن العقل إنما يدرك الأمر الباقي ويتحد به ويصير هو هو ويدركه بكنهه لا بظاهره ولا كذلك الحس فاللذة التي لنا بأن نعقل فوق اللذة التي لنا بأن نحس لكنه قد يعرض أن تكون القوة الدراكة لا تستلذ بالملائم لعوارض كالمرور يستمر العسل لعارض‏.‏

واعلم أن واجب الوجود ايس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل أو عارض لها أن يعقل وذلك محال بل كما أنه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها‏.‏

والموجودات الكائنة الفسدة بأنواعها أولاً وبتوسط ذلك بأشخاصها ولا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحد من الصورتين يبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو فعلي كلي ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض‏.‏

وأما كيفية ذلك فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل موجود عقل أوائل الموجودات وما يتولد عنها‏.‏

ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجباً بسببه فتكون الأسباب بمصادماتها تتأذى إلى أن يوجد عنها الأمور الجزئية‏.‏

فالأول يعلم الأسباب ومطابقاتها فيعلم ضرورة ما تتأذى إليه وما بينها من الأزمنة وما لها من العادات فيكون مدركاً للأمور الجزئية من حيث هي كلية أعني من حيث لها صفات وإن تخصصت بها شخصاً فبالإضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة‏.‏

وكونه يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل ونفس مدركة من الكل هو سبب لوجود الكل ومبدأ له وإبداع وإيجاد ولا يستبعد هذا فإن الصورة المعقولة التي تحدث فينا تصير سبباً للصورة الموجودة الصناعية ولو كانت بنفس وجودها كافية لأن تتكون منها الصورة الصناعية دون آلات وأسباب لكان المعقول عندنا هو بعينه الإرادة والقدرة وهو العقل المقتضى لوجوده فواجب الوجود ليس إرادته وقدرته مغايرة لعلمه‏.‏

لكن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا هو مبدأ الكل‏:‏ لا مأخوذاً عن الكل ومبدأ بذاته لا متوقفاً على غرض وذلك هو الإرادة وهو جواد بذاته وذلك هو بعينه قدرته وإرادته وعلمه فالصفات منها ما هو بهذه الصفة أي أنه موجود مع هذه الأضافة ومنها ما له هذا الوجود مع سلب فمن لم يتحاش عن إطلاق لفظ الجوهر لم يعن به إلا هذا الوجود مع سلب الكون في موضوع‏.‏

وهو واحد أي مسلوب عنه القسمة بالكم أو القول أو مسلوب عنه الشريك وهو عقل وعاقل ومعقول أي مسلوب عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما وهو أول أي مسلوب عنه الحدوث مع إضافة وجوده إلى الكل وهو مريد أي واجب الوجود مع عقليته أي سلب المادة عنه مبدأ لنظام الخير كله وهو جواد أي هو بهذه الصفة بزيادة سلب أي لا ينحو غرضاً لذاته‏:‏ فصفاته إما إضافية محضة وإما سلبية محضة وإما مؤلفة من إضافة وسلب‏:‏ وذلك لا يوجب تكثراً في ذاته‏.‏

قال‏:‏ وإذا عرفت انه واجب الوجود وأنه مبدأ لكل موجود فما يجوز عنه يجب أن يوجد وذلك لأن الجائز أن يوجد وأن لا يوجد إذا تخصص بالوجود منه احتاج إلى مرجح لجانب الوجود والمرجح إذا كان على الحال التي كان عليها قبل الترجيح ولم يعرض البتة شيء فيه ولا مباين عنه يقتضي الترجيح في هذا الوقت دون وقت قبله أو بعده وكان الأمر على ما كان عليه لم يكن مرجحاً إذا كان التعطل عن الفعل والفعل عنده بمثابة واحدة فلا بد وأن يعرض له شيء وذلك لا يخلو‏:‏ إما أن يعرض في ذاته وذلك يوجب التغيير وقد قدمنا أن واجب الوجود لا يتغير ولا يتكثر وإما أن يعرض مبايناً عن ذاته والكلام في ذلك المباين كالكلام في سائر الأفعال‏.‏

قال‏:‏ والعقل الصريح الذي لم يكذب يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها واحدة وهي كما كانت وكان لا يوجد عنها شيء فيما قبل وهي الآن كذلك فالآن لا يوجد عنها شيء فإذا صار الآن يوجد عنها شيء فقد حدث أمر لا محالة‏:‏ من قصد أو إرادة أو طبع أو قدرة أو تمكن أو غرض ولأن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب وإذا كانت هذا الذات موجودة ولا ترجح ولا يجب عنها الترجح ثم رجح فلا بد من حادث موجب للترجيح في هذه الذات وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كانت قبل ولم تحدث لها نسبة أخرى فيكون الأمر بحالة ويكون الإمكان إمكاناً صرفاً بحاله وإذا حدثت لها نسبة فقد حدث أمر ولا بد من أن يحدث في ذاته أو مبايناً عن ذاته وقد بينا استحالة ذلك‏.‏

وبالجملة فإنا نطلب النسبة الموقعة لوجود كل حادث في ذاته أو مباين عن ذاته ولا نسبة أصلاً فيلزم أن لا يحدث شيء أصلاً وقد حدث فعلم أنه إنما حدث بإيجاب من ذاته وأنه سبقه لا بزمان ووقت ولا تقدير زمان بل سبقاً ذاتياً من حيث إنه هو الواجب لذاته وكل ممكن بذاته فهو محتاج إلى الواجب لذاته‏.‏

فالممكن مسبوق بالواجب فقط والمبدع مسبوق بالمبدع فقط‏.‏

لا بالزمان‏.‏

المسألة الثامنة‏:‏ في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وفي ترتيب وجود العقول والنفوس والأجرام العلوية وأن المحرك القريب للسماويات نفس والمبدأ الأبعد عقل وحال تكون الأسطقسات عن العلل‏.‏

إذا صح أن واجب الوجود بذاته واحد من جميع جهاته فلا يجوز أن يصدر عنه إلا واحد ولو لزم عنه شيئان متباينان بالذات والحقيقة لزوماً معاً فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته ولو كانت الجهتان لازمتين لذاته فالسؤال في لزومهما ثابت حتى يكونا من ذاته فتكون ذاته منقسمة بالمعنى وقد منعناه وبينا فساده فتبين أن أول الموجودات عن الأول واحد بالعدد وذاته وماهيته وحدة لا ما في مادة وقد بينا أن كل ذات لا في مادة فهي عقل‏.‏

وأنت تعلم أن في الموجودات أجساماً وكل جسم ممكن الوجود في حيز نفسي وأنه يجب بغيره وعلمت أنه لا سبيل إلى أن يكون عن الأول بغير واسطة وعلمت أن الواسطة واحدة فبالحري أن تكون عنها المبدعات الثانية والثالثة وغيرها بسبب إثنينية فيها ضرورة‏.‏

فالمعلول الأول ممكن الوجود بذاته وواجب الوجود بالأول ووجوب وجوده بأنه عقل وهو يعقل ذاته ويعقل الأول ضرورة وليست هذه الكثرة له من الأول فإن إمكان وجوده له بذاته لا بسبب الأول بل له من الأول وجوب وجوده ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب وجوده عن الأول وهذه كثرة إضافية ليست في أول وجوده وداخلة في مبدأ قوامه ولولا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منها إلا وحدة ولا كان يتسلسل الوجود من وحدات فقط فما كان يوجد جسم‏.‏

فالعقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل تحته وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك وكماله وهي النفس وبطبيعة إمكان الوجود الخاصية له المندرجة فيما يعقله لذاته وجود جرمية الفلك الأعلى المندرجة في جملة ذات الفلك الأعلى بنوعه وهو الأمر المشارك للقوة‏.‏

فيما يعقل الأول يلزم عنه عقل وبما يختص بذاته على جهتيه الكثرة الأولى بجزأيها أعني المادة والصورة والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها‏:‏ كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالعقل الذي يحاذي صورة الفلك‏.‏

وكذلك الحال في عقل عقل وفلك فلك‏.‏

إلا أن ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا‏.‏

وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق فإنه إن لزم كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة فتلزم كثرته هذه المعلولات ولا هذه العقول متفقة الأنواع حتى يكون مقتضى معانيها متفقاً‏.‏

ومن المعلوم أن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحداً هو المعلول الأول ولا أيضاً يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للتأخر لأن الجرم بما هو جرم مركب من مادة وصورة فلو كان علة لجرم لكان بمشاركة المادة‏.‏

والمادة لها طبيعة عدمية والعدم ليس مبدأ للوجود فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ للوجود فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ لجرم ولا يجوز أن يكون مبدؤها قوة نفسانية هي صورة الجرم وكماله إذ كل نفس لكل فلك فهي كماله وصورته ليس جوهراً مفارقاً وإلا كان عقلاً وأنفس الأفلاك إنما تصدر عنها أفعالها في أجسام أخرى بوساطة أجسامها ومشاركتها‏.‏

وقد بينا أن الجسم من حيث هو جسم لا يكون مبدأ لجسم ولا يكون متوسطاً بين نفس ونفس‏.‏

ولو أن نفساً كانت مبدأ لنفس بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم وليست النفس الفلكية كذلك فلا تفعل شيئاً ولا تفعل حسماً فإن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة والكمال‏.‏

فتعين أن للأفلاك مبادئ غير جرمانية وغير صور للأجرام والجميع مشترك في مبدأ واحد وهو الذي نسميه المعلول الأول والعقل المجرد‏.‏

ويختص كل فلك بمبدأ خاص فيه ويلزم دائماً عقل من عقل حتى تتكون الأفلاك بأجرامها ونفوسها وعقولها وينتهي بالفلك الأخير ويقف حيث يمكن أن تحدث الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد لتكثر الأسباب‏.‏

فكل عقل هو أعلى في المرتبة فإنه المعني فيه وهو أنه بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه‏.‏

وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه فأما جرم الفلك فمن حيث إنه يعقل بذاته الممكن لذاته‏.‏

وأما نفس الفلك فمن حيث إنه يعقل ذاته الواجب بغيره‏.‏

ويستبقي الجرم بتوسط النفس الفلكية فإن كل صورة فهي علة لكون مادتها بالفعل‏.‏

والمادة بنفسها لا قوام لها كما أن الإمكان نفسه لا وجود له‏.‏

وإذا استوفت الكرات السماوية عددها لزم بعدها وجود الأسطقسات ولما كانت الأجسام الأسطقسية كائنة فاسدة وجب أن يكون مبادئها متغيرة فلا يكون ما هو عقل محض وحده سبباً لوجودها ولما كانت لها مادة مشتركة وصور مختلفة فيها وجب أن يكون اختلاف صورها مما تعين فيه اختلف في أحوال الأفلاك واتفاق مادتها مما تعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك فالأفلاك لما اتفقت في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة كما تبين كان مقتضاها وجود المادة ولما اختلفت في أنواع الحركات كان مقتضاها تهيؤ المادة للصور المختلفة‏.‏

ثم إن العقول المفارقة بل آخرها الذي يلينا هو الذي يفيض عنه بمشاركة الحركات السماوية شئ فيه رسم صور العالم الأسفل من جهة الانفعال كما أن في ذلك العقل رسم الصور على جهة الفعل ثم يفيض منه الصور فيها بالتخصيص بمشاركة الأجرام السماوية فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا واسطة جسم عنصري أو بواسطة تجعله على استعداد خاص به بعد العام الذي كان في جوهره‏:‏ فاض عن هذا المفارق صورة خاصة‏.‏

وارتسمت في تلك المادة‏.‏

وأنت تعلم أن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد بأمر دون أمر يكون له إلا أن يكون هناك مخصصات مختلفة وهي معدات المادة‏.‏

والمعد‏:‏ هو الذي يحدث منه في المستعد أمر ما تصير مناسبته لشيء بعينه أولي من مناسبته لشيء آخر ويكون هذا الإعداد مرجحاً لوجود ما هو أولي منه من الأوائل الواهبة للصور‏.‏

ولو كانت المادة على التهيؤ الأول تشابهت نسبتها إلى الصندين فلا يجب أن يختص بصورة دون صورة‏.‏

قال‏:‏ والأشبه أن يقال إن المادة التي تحدث بالشركة يفيض عليها من الأجرام السماوية‏:‏ إما عن أربعة أجرام‏.‏

أو عن عدة منحصرة في أربع أو عن جرم واحد تكون له نسب مختلفة انقساماً من الأسباب منحصرة في أربع فتحدث منها العناصر الأربعة وانقسمت بالخفة والثقل فما هو الخفيف المطلق فميله إلى الفوق وما هو الثقيل المطلق فميله إلى الأسفل وما هو الخفيف والثقيل بالإضافة فبينهما‏.‏

وأما وجود المركبات من العناصر فبتوسط الحركات السماوية وسنذكر أقسامها وتوابعها‏.‏

وأما وجود الأنفس الإنسانية التي تحدث مع حدوث الأبدان ولا تفسد فإنها كثيرة مع وحدة النوع‏.‏

والمعلول الأول الواحد بالذات فيه معان متكثرة بها تصدر عنه العقول والنفوس كما ذكرنا ولا يجوز أن تكون تلك المعاني كثيرة متفقة النوع والحقائق حتى تصدر عنها كثرة متفقة النوع فإنه يلزم أن تكون فيه مادة يشترك فيها وصور تتخالف وتتكثر بل فيه معان مختلفة الحقائق يقتضي كل معنى شيئاً غير ما يقتضيه الآخر في النوع فلم يلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر‏.‏

فالنفوس الأرضية كائنة عن المعلول الأول بتوسط علة أو علل أخرى وأسباب من الأمزجة والمواد وهي غاية ما ينتهي إليها في الإبداع‏.‏

ونبتدئ القول في الحركات وأسبابها ولوازمها‏:‏ أعلم أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم والجسم على حالته الطبيعية وكل حركة بالطبع فلحالة مفارقة للطبع غير طبيعية إذ لو كان شيء من الحركات مقتضي طبيعة الشيء لما كان باطل الذات مع بقاء الطبيعة بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية إما في الكيف وإما في الكم وإما في المكان وإما في الوضع وإما في مقولة أخرى‏.‏

والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية وتقدير البعد عن الغاية فإذا كان الأمر كذلك لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة وإلا كانت عن حال غير طبيعية إلى حال طبيعية إذا وصلت إليها سكنت ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار بل على سبيل التسخير فإن كانت الطبيعة تحرك على الاستدارة فهي تحرك لا محالة‏:‏ إما عن أين غير طبيعي أو وضع غير طبيعي هرباً طبيعياً عنه وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصداً طبيعياً إليه‏.‏

والحركة المستديرة ليست تهرب عن شيء إلا وتقصده فليست إذاً طبيعية إلا أنها قد تكون بالطبع وإن لم تكن قوة طبيعية كانت شيئاً بالطبع وإنما تحرك بتوسط الميل الذي فيه‏.‏

ونقول‏:‏ إن الحركة معنى متجدد السبب وكل شطر منه مختص بسبب فإنه لا ثبات له‏.‏

ولا يجوز أ يكون عن معنى ثابت البتة وحده ولو كان فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال فالثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت فالإرادة العقلية الواحدة لا توجب البتة حركة فإنها مجردة عن جميع أصناف التغير والقوة العقلية حاضرة المعقول دائماً ولا يفرض فيها الانتقال من معقول إلى معقول إلا مشاركاً للتخيل والحس فلا بد للحركة من مبدأ قريب‏.‏

والحركة المستديرة مبدؤها القريب نفس في الفلك تتحد تصوراتها وإراداتها وهي كمال جسم الفلك وصورته ولو كانت قائمة بنفسها من كل وجه لكانت عقلاً محضاً لا يتغير ولا ينتقل ولا يخالط ما بالقوة بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا إلا أن لها أن اعقل بوجه ما تعقلاً مشوباً بالمادة‏.‏

وبالجملة أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقية كالفعل العقلي فينا والمحرك الأول لها غير مادي أصلاً وإنما تتحرك عن قوة غير متناهية والقوة التي للنفس متناهية لكنها بما تعقل الأول فيسيح عليها نوره دائماً صارت قوتها غير متناهية فكانت الحركات المستديرة أيضاً غير متناهية‏.‏

والأجرام السماوية لما لم يبق في جوهرها أمر ما بالقوة أعني في كمها وكيفها تركبت صورتها في مادتها على وجه لا يقبل التحليل ولكن عرض لها في وضعها وأينها ما بالقوة إذ ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولي لأن يكون ملاقياً له أو لجزئه من جزء آخر فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة‏.‏

والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال ولم يكن هذا ممكناً للجرم السماوي بالعدد فحفظ بالنوع والتعاقب فصارت الحركة حافظة لما يكون من هذا الكمال ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال ومبدأ الشوق هو ما يعقل منه‏.‏

فنفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل تصدر عنه الحركات الفلكية صدور الشيء عن التصور المرجب له وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول لأن ذلك تصور لما بالفعل فيحدث عنه طلب لما بالفعل ولا يمكن لما بالشخص فيكون بالتعاقب ثم يتبع ذلك التصور تصورات جزئية على سبيل الانبعاث إلى المقصود الأول وتتبع تلك التصورات الحرمات المنتقل بها في الأوضاع وهي كأنها عبادة ملكية أو فلكية‏.‏

وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسيح منها تأثير تتحرك له الأعضاء فتارة تتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض وتارة على نحو آخر متشابه وإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول وبما يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني شغل ذلك عن كل شيء ولكن ينبعث منه ما هو أدون منه في المرتبة وهو الشوق إلى الأشبه به بقدر الإمكان‏.‏

فقد عرفت أن الفلك متحرك بطبعه ومتحرك بالنفس ومتحرك بقوة عقلية غير متناهية وتميزت عندك كل حركة عن صاحبتها وعرفت أن المحرك الأول لجملة السماء واحد ولكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه ومتشوق معشوق يخصه‏.‏

فأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى وهي على قول من تقدم بطليموس كرة الثوابت وعلى قول بطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها ير مكوكبة وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى ولكل واحدة مبدأ خاص وللكل مبدأ فلذلك تشترك الأفلاك في دوام الحركة وفي الاستدارة‏.‏

ولا يجوز أن يكون شيء منها لأجل الكائنات السافلة لا قصد حركة ولا قصد جهة حركة ولا تقدير سرعة وبطء بل ولا قصد فعل البتة لأجلها وذلك أن كل قصد فيكون من أجل المقصود ويكون أنقص وجوداً من المقصود لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجوداً من الآخر ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس فلا يكون البتة إلى معلول قصد صادق وإلا كان القصد معطياً ومفيداً لوجود ما هو أكمل وإنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئاً له ومفيد وجوده شيء آخر وكل قصد ليس عبثاً فإنه يفيد كمالاً ما لقاصد لو لم يقصد لم يكن ذلك الكمال‏.‏

ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالاً لم يكن فالعالي إذاً لا يريد أمراً لأجل السافل وإنما يريده لما هو أعلى منه وهو التشبه بالأول بقدر الإمكان‏.‏

ولا يجوز أن يكون الغرض تشبهاً بجسم من الأجسام السماوية وإن كان تشبه السافل بالعالي إذ لو كان كذلك لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم ولم يكن مخالفاً له أو أسرع في كثير من الواضع‏.‏

ولا يجوز أن يكون الغرض شيئاً يوصل إليه بالحركة بل شيئاً مباسناً غير جواهر الأفلاك من موادها وأنفسها‏.‏

وبقي أن يكون لكل واحد من الأفلاك شوق تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه وتختلف الحركات وأفعالها وأحوالها اختلافها الذي لها لأجل ذلك وإن كنا لا نعرف كيفيتها وكميتها‏.‏

وتكون العلة الأولى متشوق الجميع بالاشتراك وهذا نعنى قول القدماء‏:‏ إن للكل محركاً واحداً معشوقاً ولكل كرة محركاً يخصها ومعشوقاً يخصها فيكون إذاً لكل فلك نفس محركة تعقل الخير ولها بسبب الجسم تخيل أي تصور للجزئيات وإرادة لها ثم يلزمها حركات ما دونها لزوماً بالقصد الأول حتى تنتهي آلة حركات الفلك الذي يلينا ومدبرها العقل الفعال‏.‏

ويلزم الحركات السماوية حركات العناصر على مثال تناسب حركات الأفلاك وتعد تلك الحركات موادها لقبول الفيض من العقل الفعال فيعطيها صورها على قدر استعداداتها كما قررنا‏.‏

فقد تبين لك أسباب الحركات ولوازمها وستعلم بواقيها في الطبيعيات‏.‏

المسألة التاسعة‏:‏ في العناية الأزلية وبيان دخول الشر في القضاء‏.‏

قال‏:‏ العناية هي كون الأول عالماً لذاته بما عليه الوجود من نظام وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان وراضياً به على النحو المذكور فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان فيفيض منه ما يعثله نظاماً وخيراً على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضاناً على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان فهذا هو معنى العناية‏.‏

والخير يدخل في القضاء الإلهي دخولاً بالذات لا بالعرض والشر بالعكس منه وهو على وجوه‏:‏ فيقال شر لمثل النقص الذي هو الجهل والضعف والتشويه في الخلقة ويقال شر لمثل الألم والغم ويقال شر لمثل الشرك والظلم والرياء وبالجملة الشر بالذات هو العدم ولا كل عدم بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته‏.‏

والشر بالعرض هو المعدم والحابس للكمال عن مستحقه والشر بالذات ليس بأمر حاصل إلا أن يخبر عن لفظه ولو كان له حصول ما لكان الشر العام‏.‏

وهذا الشر يقابله الوجود على كماله الأقصى بأن يكون بالفعل وليس فيه ما بالقوة أصلاً فلا يلحقه شر‏.‏

وأما الشر بالعرض فله وجود ما وإنما يلحق ما في طباعه أمر ما بالقوة وذلك لأجل المادة‏.‏

فيلحقها لأمر يعرض لها في نفسها وأول وجودها‏:‏ هيئة من الهيئات المانعة لاستعدادها الخاص للكمال الذي توجهت إليه فتجعلها أردأ مزاجاً وأعصى جوهراً لقبول التخطيط والتشكيل والتقويم فتشوهت الخلقة وانتقصت البنية لا لأن الفاعل قد حرم بل لأن المنفعل لم يقبل‏.‏

وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين‏:‏ إما مانع للمكمل وإما مضاد ماحق للكمال‏.‏

مثال الأول‏:‏ وقوع سحب كثيرة وتركمها وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال‏.‏

ومثال الثاني‏:‏ حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص‏.‏

ويقال شر للأفعال المذمومة ويقال شر لمبادئها من الأخلاق مثال الأول‏:‏ الظلم والرياء ومثال الآني‏:‏ الحقد والحسد‏.‏

ويقال شر للآلام والغموم ويقال شر لنقصان كل شيء عن كماله‏.‏

والضابط لكله إما عدم وجود وإما عدم كمال‏.‏

فنقول‏:‏ الأمور إذا توهمت موجودة فإما تمتنع أن تكون إلا خيراً على الإطلاق أو شراً على الإطلاق أو خيراً من وجه وشراً من وجه وهذا القسم إما أن يتساوى الخير والشر أو الغالب فيه أحدهما‏.‏

أما الخير المطلق الذي لا شر فيه فقد وجد في الطباع والخلقة وأما الشر المطلق الذي لا خير فيه أو الغالب فيه أو المساوي فلا وجود له أصلاً‏.‏

فبقي ما الغالب في وجوده الخير وليس يخلو عن شر والأحرى به أن يوجد فإن لا كونه أعظم شراً من كونه فواجب أن يفيض وجوده من حيث يقيض منه الوجود لئلا يفوت الخير الكلي لوجود الشر الجزئي‏.‏

وأيضاً فلو امتنع وجود ذلك القدر من الشر امتنع وجود أسبابه التي تؤدي إلى الشر بالعرض وكان فيه أعظم خلل في نظام الخير الكلي بل وإن لم نلتفت إلى ذلك وصيرنا التفاتنا إلى ما ينقسم إليه الإمكان في الوجود من أصناف الموجودات المختلفة في أحوالها فكان الوجود المبرأ من الشر من كل وجه قد حصل وبقي نمط من الوجود إنما يكون على سبيل أن لا يوجد إليه ويتبعه ضرر وشر مثل النار فإن الكون إنما يتم بأن يكون فيه نار ولن يتصور حصولها إلا على وجه تحرق وتسخن ولم يكن بد من المصادمات الحادثة أن تصادف النار ثوب فقير ناسك فيحترق والأمر الدائم والأكثري حصول الخير من النار فأما الدائم فلأن أنواعاً كثيرة لا تستحفظ على لدوام إلا بوجود النار وأما الأكثر فلان أكثر الأشخاص والأنواع في كنف السلامة من الاحتراق فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأعراض شرية أقلية فأريدت الخيرات الكائنة عن مثل هذا الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال‏:‏ إن الله تعالى يريد الأشياء ويريد الشر أيضاً على الوجه الذي بالعرض فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض وكل بقدر‏.‏

والحاصل أن الكل إنما رتبت فيه القوى الفعالة والمنفعلة‏:‏ السماوية والأرضية‏:‏ الطبيعية والنفسانية بحيث يؤدي إلى النظام الكلي مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور فيلزم من أحوال العالم بعضها بالقياس إلى بعض أن يحدث في نفس‏:‏ صورة اعتقاد رديء أو كفر أو شر آخر ويحدث في بدن‏:‏ صورة قبيحة مشوهة ولو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلي يثبت فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض بالضرورة‏.‏

وقيل‏:‏ خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وكل ميسر لما خلق له‏.‏

المسألة العاشرة‏:‏ في المعاد وإثبات سعادات دائمة للنفوس وإشارة إلى النبوة وكيفية الوحي والإلهام‏.‏

ولنقدم على الخوض فيها أصولاً ثلاثة‏:‏ الأصل الأول‏:‏ أن لكل قوة نفسانية لذة وخيراً يخصها وأذى وشراً يخصها وحيثما كان المدرك أشد إدراكاً وأفضل ذاتاً والمدرك أكمل وجوداً وأشرف ذاتاً وأدوم ثباتاً فاللذة أبلغ وأوفر‏.‏

الأصل الثاني‏:‏ أنه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أن المدرك لذيذ ولكن لا يتصور كيفيته ولا يشعر به فلم يشتق إليه ولم يفزع نحوه فيكون حال المدرك حال الأصم والأعمى الملتذين برطوبة اللحن وملاحة الوجه من غير شعور وتصور وإدراك‏.‏

الأصل الثالث‏:‏ أن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الدراكة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده أو تكون القوة ممنوة بضد ما هو كمالها فلا تحس به كالمريض والمرور فإذا فنقول بعد تمهيد الأصول‏:‏ إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالما عقلياً مرتسماً فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل والخير الفائض من واهب الصور على الكل مبتدئاً من المبدأ‏.‏

وسالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما بالأبدان ثم الأجسام العلوية بهيئآتها وقواها ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله فتصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير والبهاء والحق ومتحداً به ومنتقشاً بمثاله ومنخرطاً في سلكه وصائرا من جوهره وهذا الكمال لا يقاس بسائر الكمالات وجوداً ودواماً ولذة وسعادة بل هذه اللذة أعلى من اللذات الحسية وأعلى من الكمالات الجسمانية بل لا مناسبة بينهما في الشرف والكمال‏.‏

وهذه السعادة لا تتم له إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس وتهذيب الأخلاق‏.‏

والخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية وذلك باستعمال التوسط بين الخلقتين المضادتين لا بأن يفعل أفعال التوسط بل بأن يحصل ملكة التوسط بين الخلقتين المضادتين فيحصل في القوى الحيوانية هيئة الإذعان وفي القوى الناطقة هيئة الاستعلاء‏.‏

ومعلوم أن ملكتي الإفراط والتفريط هما من مقتضيات القوى الحيوانية فإذا قويت حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية قد رسخت فيها من شأنها أن تجعلها قوية العلاقة مع البدن شديدة الانصراف إليه‏.‏

وأما ملكة التوسط فهي من مقتضيات الناطقة فإذا قويت قطعت العلاقة من البدن فسعدت السعادة الكبرى‏.‏

ثم للنفوس مراتب في اكتساب هاتين القوتين أعني العلمية والعملية والتقصير فيهما فكم ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات والتخلق بالأخلاق الحسنة حتى يجاوز الحد الذي في مثله يقع في الشقاوة الأبدية‏.‏

وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤبد وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤقت قال‏:‏ فليس يمكنني أن أنص عليه إلا بالتقريب وليته سكت عنه وقد قيل‏:‏ فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد قال‏:‏ وأطن أن ذلك أن يتصور نفس الإنسان المبادئ المفارقة تصوراً حقيقياً ويصدق بها تصديقاً يقيناً لوجودها عنده بالبرهان ويعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها إلى بعض والنظام الآخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه ويتصور العناية وكيفيتها ويتحقق أن الذات المتقدمة للكل أي وجود يخصها وأية وحدة تخصها‏:‏ وأنها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه وكيف ترتيب نسب الموجودات إليها‏.‏

وكلما ازداد استبصاراً ازداد للسعادة استعداداً وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون قد أكد العلاقة مع ذلك العالم فصار له شوق وعشق إلى ما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه جملة‏.‏

ثم إن النفوس والقوى الساذجة ساذجيتها واستقرت فيها هيئات صحيحة إقناعية وملكات حسنة خلقية سعدت بحسب ما اكتسبت أما إذا كان الأمر بالضد من ذلك أو حصلت أوائل الملكة العلمية وحصل لها شوق قد تبع رأياً مكتسباً إلى كمال حالها فصدها عن ذلك عائق مضاد فقد يبقى الشقاء الأبدي وهؤلاء إما مقصرون في السعي لتحصيل الكمال الإنساني وإما معاندون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية والجاحدون أسوأ حالا‏.‏

والنفوس البله أدنى من الخلاص من فطانة بتراء لكن النفوس إذا فارقت وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة على مثل ما يخاطب به العامة ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم لا كمال فتسعد تلك السعادة ولا عدم كمال فتشقى تلك الشقاوة بل جميع هيئآتهم النفسانية متوجهة إلى الأسفل منجذبة إلى الأجسام ولابد لها من تخيل ولابد للتخيل من أجسام‏.‏

قال‏:‏ فلابد لها من أجرام سماوية تقوم بها القوة المتخيلة فتشاهد ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية وتكون الأنفس الرديئة أيضاً تشاهد العقاب المصور لهم في الدنيا وتقاسيه فإن الصورة الخيالية ليست تضعف عن الحسية بل تزداد تأثيراً كما تشاهد في المنام وهذه هي السعادة والشقاوة بالقياس إلى الأنفس الخسيسة‏.‏

وأما الأنفس المقدسة فإنها تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتصل لكمالها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية ولو كان بقي فيها أثر من ذلك اعتقادي أو خلقي تأذت به وتخلفت عن درجة عليين إلى أن ينفسخ عنها‏.‏

قال‏:‏ والدرجة الأعلى فيما ذكرناه لمن له النبوة إذ في قواه النفسانية خصائص ثلاث نذكرها في الطبيعيات فيها يسمع كلام الله تعالى ويرى ملائكته المقربين وقد تحولت على صور يراها‏.‏

وكما أن الكائنات ابتدأت من الأشرف فالأشرف حتى ترقت في الصعود إلى العقل الأول ونزلت في الانحطاط إلى المادة وهي الأخس كذلك النفوس ابتدأت من الأخس حتى بلغت النفس الناطقة وترقت إلى درجة النبوة‏.‏

ومن المعلوم أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع ومشاركة في ضروريات حاجاته مكتفياً بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضاً مكتفياً به ولا تتم تلك الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير‏.‏

ولا بد في المعامل من سنة وعدل ولا بد من سان ومعدل ولا بد من أن يكون بحيث يخاطب الناس ويلزمهم السنة فلا بد من أن يكون إنساناً‏.‏

ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون ويرى كل واحد منهم ما له عدلاً وما عليه ظلماً فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الإنسان أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار والحاجبين‏.‏

فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي أمثال تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها‏.‏

ولا يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلم تلك ولا يعلم هذا ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده ومبني على وجوده موجود‏!‏‏.‏

فلا بد إذاً من نبي هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند ربه تعالى‏:‏ يدعوهم إلى التوحيد ويمنعهم من الشرك ويسن لهم الشرائع والأحكام ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن التباغض والتحاسد ويرغبهم في الآخرة وثوابها ويضرب لهم للسعادة والشقاوة أمثالاً تسكن إليها نفوسهم وأما الحق فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ولا أذن سمعته ثم تكريره عليهم العبادات ليحصل لهم بعده تذكر المعبود بالتكرير‏.‏

والمذكرات إما حركات وإما إعدام حركات تفضي إلى حركات فالحركات كالصلوات وما في معناها وأعدام الحركات كالصيام ونحوه وإن لم يكن لهم هذه المذكرات تناسوا جميع ما دعاهم إليه مع انقراض قرن أو قرنين‏.‏

وينفعهم ذلك أيضاً في المعاد منفعة عظيمة فإن السعادة في الآخرة بتنزيه النفس عن الأخلاق الرديئة والملكات الفاسدة فيتقرر لها بذلك هيئة الانزعاج عن البدن وتحصل لها ملكة التسلط عليه فلا تنفعل عنه وتستفيد منه ملكة الالتفات إلى جهة الحق والإعراض عن الباطل وتصير شديدة الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله تعالى وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه في كل فعل أن يتذكر الله ويعرض عن غيره لكان جديراً بأن يفوز من هذا الزكاء بحظ فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله تعالى وبإرسال الله تعالى وواجب في الحكمة الإلهية إرساله وأن جميع ما سنه فإنما هو ما وجب من عند الله أن يسنه وأنه متميز عن سائر الناس بخصائص بالغة وواجب الطاعة بآيات ومعجزات دلت على صدقه‏!‏‏.‏

وسيأتي شرح ذلك في الطبيعيات‏.‏

لكنك تحدس مما سلف آنفاً‏:‏ أن الله تعالى كيف رتب النظام في الموجودات وكيف سخر الهيولى مطيعة للنفوس بإزالة صورة وإثبات صورة وحيثما كانت النفوس الإنسانية أشد مناسبة للنفوس الفلكية بل وللعقل الفعال كان تأثيرها في الهيولى أشد وأغرب وقد تصفو النفس صفاء شديداً لاستعداد ما للاتصال بالعقول المفارقة فيفيض عليها من العلوم ما لا يصل بالتقليب والإحالة من حال إلى حال وبالقوة الثانية يخبر عن غيب ويكلمه ملك‏.‏

فيكون ما للأنبياء عليهم السلام‏:‏ وحياً وما للأولياء‏:‏ إلهاماً‏.‏

وها نحن نبتدأ القول في الطبيعيات المنقولة عن الشيخ الرئيس أبي على ابن سينا‏.‏

في الطبيعيات قال أبو علي ابن سينا‏:‏ إن للعلم الطبيعي موضوعاً ينظر فيه وفي لواحقه كسائر العلوم وموضوعه‏:‏ الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغير وبما هي موصوفة بأنحاء الحركات والسكونات وأما مبادئ هذا العلم كمثل تركب الأجسام عن المادة والصورة والقول في حقيقتهما ونسبة كل واحد منهما إلى الثاني‏.‏

فقد ذكرناها في العلم الإلهي‏.‏

والذي يختص من ذلك التركب بالعلم الطبيعي هو أن تعلم أن الأجسام الطبيعية منها أجسام مركبة من أجسام إما متشابهة الصور كالسرير وإما مختلفتها كبدن الإنسان ومنها أجسام مفردة‏.‏

والأجسام المركبة لها أجزاء موجودة بالفعل متناهية وهي تلك الأجسام المفردة التي منها تركبت وأما الأجسام المفردة فليس لها في الحال جزء بالفعل وفي قوتها أن تتجزأ أجزاء غير متناهية كل منها أصغر من الآخر‏.‏

والتجزؤ إما بتفريق الاتصال وإما باختصاص العرض ببعض منه وإما بالتوهم وإذا لم يكن أحد هذه الثلاثة فالجسم المفرد لا جزء له بالفعل‏.‏

قال‏:‏ ومن أثبت الجسم مركباً من أجزاء لا تتجزأ بالفعل فبطلانه لأن كل جزء مس جزءاً فقد شغله بالمس وكل ما شغل شيئاً بالمس فإما أن يدع فراغاً عن شغله لجهة أو لا يدع فإن ترك فراغاً فقد تجزأ الممسوس وإن لم يترك فراغاً فلا يتأتى أن يماسه آخر غير المماس الأول وقد ماسه آخر‏.‏

هذا خلف‏.‏

وكذلك في كل جزء موضوع على جزأين متصل وغيره‏.‏

من تركيب المربعات منها لمساواة الأقطار والأضلاع ومن جهة مسامتات الظل والشمس‏.‏

دلائل على أن الجزء الذي لا يتجزأ البتة‏:‏ محال وجوده‏.‏

فنتكلم بعد هذه المقدمة في مسائل هذا العلم‏.‏

ونحصرها في ست مقالات‏.‏

المقالة الأولى في لواحق الأجسام الطبيعية مثل الحركة والسكون والزمان والمكان والخلاء والتناهي والجهات والتماس والالتحام والاتصال والتتالي‏.‏

أما الحركة‏:‏ فتقال على تبدل حال قارة في الجسم يسيراً على سبيل الاتجاه نحو شيء والوصول إليه هو بالقوة أو بالفعل فيجب أن تكون الحركة مفارقة الحال ويجب أن يقبل الحال التنقص والتزيد ويكون باقياً غير متشابه الحال في نفسه وذلك مثل السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والطول والقصر والقرب والبعد وكبر الحجم وصغره فالجسم إذا كان في مكان فتحرك فقد حصل فيه كمال وفعل أول يتوصل به إلى كمال وفعل ثان هو الوصول فهو في المكان الأول بالفعل وفي المكان الثاني بالقوة فالحركة‏:‏ كمال أول لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة ولا يكون وجودها إلا في زمان بين القوة المحصنة والفعل المحض وليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولاً قاراً مستكملاً وقد ظهر أنها في كل أمر يقبل التنقص والتزيد وليس شيء من بجواهر كذلك فإذاً‏:‏ لا شيء من الحركات في الجوهر‏.‏

وكون الجوهر وفساده ليس بحركة بل هو أمر يكون دفعة‏.‏

وأما الكمية فلأنها تقبل التزيد والتنقص فخليق أن يمون فيها حركة كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف‏.‏

وأما الكيفية فما يقبل منها التنقص والتزيد والاشتداد كالتبيض والتسود فيوجد فيه الحركة‏.‏

وأما المضاف فأبداً عارض لمقولة من البواقي في قبول التنقص والتزيد فإذا أضيفت إليه حركة فذلك بالحقيقة لتلك المقولة‏.‏

وأما الأين فإن وجود الحركة فيه ظاهر وهو النقلة‏.‏

وأما متى فإن وجوده للجسم بتوسط الحركة فكيف يكون فيه الحركة ولو كان ذلك لكان لمتى متى آخر‏.‏

وأما الوضع فإن فيه حركة على رأينا خاصة كحركة الجسم المستدير على نفسه إذ لو توهم المكان المطيف به معدوماً لما امتنع كونه متحركاً‏.‏

ولو قدر ذلك في الحركة المكانية لامتنع ومثاله في الموجودات‏:‏ الجرم الأقصى الذي ليس وراءه جسم‏.‏

والوضع يقبل التنقص والاشتداد فيقال‏:‏ انصب وأنكس‏.‏

وأما الملك فإن تبدل الحال فيه تبدل أولاً في الأين فإذاً الحركة فيه بالعرض‏.‏

وأما أن يفعل فتبدل الحال فيه بالقوة أو العزيمة أو الآلة فكانت الحركة في قوة الفاعل أو عزيمته أو آلته أولاً وفي الفعل بالعرض‏.‏

على أن الحركة إن كانت خروجاً عن هيئة فهي عن هيئة قارة وليس شيء من الأفعال كذلك فإذاً‏:‏ لا حركة بالذات إلا‏:‏ في الكم والكيف والأين والوضع وهو كون الشيء بحيث لا يجوز أن يكون على ما هو عليه من أينه وكمه وكيفه ووضعه قبل ذلك ولا بعده‏.‏

والسكون‏:‏ هو عدم هذه الصورة في ما من شأنه أن توجد فيه وهذا العدم له معنى ما ويمكن أن يرسم وفرق بين عدم القرنين في الإنسان وهو السلب المطلق عقداً وقولاً وبين عدم المشي له فهو حالة مقابلة للمشي توجد عند ارتفاع علة المشي وله وجود ما بنحو من الأنحاء وله علة ثم اعلم أن كل حركة توجد في الجسم فإنما توجد لعلة محركة إذ لو تحرك بذاته وبما هو جسم لكان كل جسم متحركاً فيجب أن يكون المحرك معنى زائداً على هيولى الجسمية وصورتها ولا يخلو‏:‏ إما أن يكون ذلك المعنى في الجسم وإما أن لا يكون فإن كان المحرك مفارقاً فلا بد لتحريكه من معنى في الجسم قابل لجهة التحريك والتغيير‏.‏

ثم المتحرك لمعنى في ذاته يسمى متحركاً بذاته وذلك إما أن تكون العلة الموجودة فيه يصح عنها أن تحرك تارة ولا تحرك أخرى فيسمى متحركاً بالاختيار وإما أن لا يصح فيسمى متحركاً بالطبع‏.‏

والمتحرك بالطبع لا يجوز أن يتحرك وهو على حالته الطبيعية لأن كل ما اقتضاه طبيعة الشيء لذاته ليس يمكن أن يفارقه إلا والطبيعة قد فسدت‏.‏

وكل حركة تتعين في الجسم فإنها يمكن أن تفارق والطبيعة لم تبطل لكن الطبيعة إنما تقتضي الحركة للعود إلى حالتها الطبيعية فإذا عادت ارتفع الموجب للحركة وامتنع أن يتحرك فيكون مقدار الحركة على مقدار البعد من الحالة الطبيعية‏.‏

وهذه الحركة ينبغي أن تكون مستقيمة إن كانت في المكان لأنها لا تكون إلا لميل طبيعي وكل ميل طبيعي فعلى أقرب مسافة وكل ما هو على أقرب المسافة فهو على خط مستقيم فالحركة المكانية المستديرة ليست طبيعية ولا الحركة الوضعية فإن كل حركة طبيعية فإنها لهرب عن حالة غير طبيعية ولا يجوز أن يكون فيه قصد طبيعي بالعود إلى ما فارقه بالهرب إذ لا اختيار لها وقد تحقق العود فهي إذاً غير طبيعية فهي إذاً عن اختيار وإرادة ولو كانت عن قسر فلا بد أن ترجع إلى الطبع أو الاختيار‏.‏

وأما الحركات في أنفسها فيتطرق غليها الشدة والضعف فيتطرق إليها الشرعة والبطء لا بتخلل سكنات‏.‏

وهي قد تكون واحدة بالجنس إذا وقعت في مقولة واحدة أو في جنس واحد من الأجناس التي تحت تلك المقولة وقد تكون واحدة بالنوع وذلك إذا كانت ذات جهة مفروضة عن جهة واحدة إلى جهة واحدة في نوع واحد وفي زمان مساو مثل تبييض ما يتبيض وقد تكون واحدة بالشخص وذلك إذا كانت عن متحرك واحد بالشخص في زمان واحد ووحدتها بوجود الاتصال فيها‏.‏

والحركات المتفقة في النوع لا تتضاد‏.‏

وأما تطابق الحركات فيعني بها التي يجوز أن يقال لبعضها أسرع من بعض أو أبطأ أو مساو والأسرع هو الذي يقطع شيئاً مساوياً لما يقطعه الآخر في زمان اقصر وضده الأبطأ والمساوي معلوم‏.‏

وقد يكون التطابق بالقوة وقد يكون بالفعل وقد يكون بالتخيل‏.‏

وأما تضاد الحركات فإن الضدين هما اللذين موضوعهما واحد وهما ذاتان يستحيل أن يجتمعا فيه وبينهما غاية الخلاف فتضاد الحركات ليس بتضاد الأطراف والجهات فعلى هذا لا تضاد بين الحركة المستقيمة والحركة المستديرة المكانية لأنهما لا يتضادان في الجهات بل المستديرة لا جهة فيها بالفعل لأنها متصل واحد فالتضاد في الحركات المكانية المستقيمة يتصور فالهابطة ضد الصاعدة والمتيامنة ضد المتياسرة‏.‏

وأما التقابل بين الحركة والسكون فهو تقابل العدم والملكة وقد بينا أن ليس كل عدم هو السكون بل هو عدم ما من شأنه أن يتحرك ويختص ذلك بالمكان الذي تتأتى فيه الحركة‏.‏

والسكون في المكان المقابل إنما يقابل الحركة عنه لا الحركة إليه بل ربما كان هذا السكون استكمالاتها‏.‏

وإذا عرفت ما ذكرناه سهل عليك معرفة الزمان بأن تقول‏:‏ كل حركة تفرض في مسافة على مقدار من السرعة وأخرى معها على مقدارها وابتدأتا معاً فإنهما يقطعان المسافة معاً وإن ابتدأت إحداهما ولم تبتدئ الأخرى ولكن تركتا الحركة معاً فإن إحداهما تقطع دون ما تقطعه الأولى‏.‏

وإن ابتدأ معه بطيء واتفقا في الأخذ والترك وجد البطيء قد قطع أقل والسريع أكثر وكان بين أخذ السريع الأول وتركه إمكان قطع مسافة معينة بسرعة معينة وأقل منها ببطء معين وبين أخذ السريع الثاني وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة‏.‏

يكون هذا الإمكان طابق جزءاً من الأول ولم يطابق جزءاً مقتضياً وكان من شأن هذا الإمكان التقضي لأنه لو ثبت للحركات بحال واحدة لكانت تقطع المتفقات في السرعة أي وقت ابتدأت وتركت مسافة واحدة بعينها ولما كان إمكان أقل من إمكان فوجد في هذا الإمكان زيادة ونقصان يتعينان فكان ذا مقدار مطابق للحركة فإذاً ههنا مقدار للحركات مطابق لها‏.‏

وكل ما طابق الحركات فهو متصل ويقتضي الاتصال تجدده وهو الذي نسمبه‏:‏ الزمان‏.‏

ثم هو لا بد وأن يكون في مادة ومادته الحركة فهو مقدار الحركة‏.‏

وإذا قدرت وقوع حركتين مختلقتين في العدم كان هناك إمكانان مختلفان بل مقداران مختلفان‏.‏

وقد سبق أن الإمكان والمقدار لا يتصور إلا في موضوع فليس الزمان محدثاً حدوثاً زمانياً بحيث يسبقه زمان لأن كلامنا في ذلك الزمان بعينه وإنما حدوثه حدوث إبداع لا يسبقه إلا مبدعه‏.‏

وكذلك ما يتعلق به الزمان ويطابقه فالزمان متصل يتهيأ أن ينقسم بالتوهم فإذا قسم ثبتت منه آنات وانقسم إلى الماضي والمستقبل وكونهما فيه ككون أقسام العدد في العدد وكون الآن فيه كالوحدة في العدد وكون المتحركات فيه ككون المعدودات في العدد‏.‏

والدهر هو المحيط بالزمان‏.‏

وأقسام الزمان ما فصل منه بالتوهم كالساعات والأيام والشهور والأعوام‏.‏

وأما المكان فيقال مكان‏:‏ لشيء يكون محيطاً بالجسم ويقال‏:‏ لشيء يعتمد عليه الجسم‏.‏

والأول هو الذي يتكلم فيه الطبيعي وهو حاو للمتمكن مفارق له عند الحركة ومساو له وليس هو شيئاً في المتمكن وكل هيولى وصورة فهو منن المتمكن فليس إذا المكان إذاً بهيولى وصورة ولا الأبعاد التي يدعى أنها مجردة عن المادة قائمة بمكان الجسم المتمكن لا مع امتناع خلوها كما يراه قوم ولا مع جواز خلوها كما يظنه مثبتو الخلاء‏.‏

ونقول في نفي الخلاء‏:‏ إن فرض خلاء خال فليس هو لا شيئاً محضاً بل هو ذات ما له كم لأن كل خلاء يفرض فقد يوجد خلاء آخر أقل منه أو اكثر ويقبل التجزؤ في ذاته‏.‏

والمعدوم واللا شيء ليس يوجد هكذا فليس الخلاء لا شيء فهو ذو كم‏.‏

وكل كم فإما متصل وإما منفصل والمنفصل لذاته عديم الحد المشترك بين أجزائه وقد تقرر في الخلاء حد مشترك فهو إذاً متصل الأجزاء منحازها في جهات فهو إذاً كم ذو وضع قابل للأبعاد الثلاثة كالجسم الذي يطابقه وكأنه جسم تعليمي مفارق للمادة‏.‏

فنقول‏:‏ الخلاء المقدر إما أن يكون موضوعاً لذلك المقدار أو يكون الوضع والمقدار جزأين من الخلاء والأول باطل فإنه إذا رفع المقدار في التوهم‏:‏ كان الخلاء وحده بلا مقدار بنفسه لا لمقدار حله وإن كان الخلاء مجموع مادة ومقدار فالخلاء إذا جسم فهو ملاء‏.‏

وأيضاً فإن كل شيء يقبل الاتصال والانفصال فهو ذو مادة مشتركة قابلة لهما كما بينا والخلاء لا مادة له فلا يجوز عليه الانفصال والاتصال ونقول‏:‏ إن التمانع محسوس بين الجسمين وليس التمانع من حيث المادة لأن المادة من حيث إنها مادة لا انحياز لها عن الأجزاء وإنما ينحاز الجسم عن الجسم لأجل صورة البعد فطباع الأبعاد تأبى التداخل وتوجب المقاومة والتنحي‏.‏

وأيضاً فإن بعداً لو دخل فإما أن يكونا جميعاً فهما أزيد من الواحد وكل ما هو عظيم وهو أزيد فهو أعظم‏.‏

وإن عدما جميعاً‏.‏

أو وجد أحدهما وعدم الآخر فليس مداخلة‏.‏

فإذا قيل‏:‏ ونقول في نفي اللانهاية عن الجسم‏:‏ إن كل موجود الذات ذا وضع وترتيب فهو متناه إذ لو كان غير متناه فإما أن يكون غير متناه من الأطراف كلها أو غير متناه من طرف‏.‏

فإن كل غير متناه من طرف أمكن أن يفصل منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم قيوجد ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيئاً على حدة إما أن يكونا بحيث يمتدان معاً متطابقين في الامتداد فيكون الزائد والناقص متساويين وهذا محال وإما أن لا يمتد بل يقصر عنه فيكون متناهياً والفصل أيضاً كان متناهياً فيكون المجموع متناهياً فالأصل متناه‏.‏

وأما إذا كان غير متناه من جميع الأطراف فلا يبعد أن يفرض ذا مقطع تتلاقى عليه الأجزاء ويمون طرفاً ونهاية ويكون الكلام في الأجزاء والجزأين كالكلام في الأول‏.‏

وبهذا يتأتى البرهان على أن العدد المترتب الذات الموجود بالفعل متناه وأن ما لا يتناهى بهذا الوجه هو الذي إذا وجد وفرض أنه يحتمل زيادة ونقصاناً وجب أن يلزم ذلك محال‏.‏

وأما إذا كانت أجزاؤه لا تتناهى وليست معاً وكانت في الماضي والمستقبل فغير ممتنع وجودها واحداً قبل آخر أو بعده لاحقاً أو كانت ذات عدد مرتب في الوضع ولا الطبع فلا مانع عن وجوده معاً وذلك أن ما لا يترتب له في الوضع أو الطبع فلن يحتمل الانطباق وما لا وجود له معاً فهو فيه أبعد ونقول في إثبات التناهي في القوى الجسمانية ونفي التناهي عن القوى غير الجسمانية‏:‏ قال‏:‏ الأشياء التي يمتنع فيها وجود غير المتناهي بالفعل فليس يمتنع فيها من جميع الوجوه فإن العدد لا يتناهى أي بالقوة وكذلك الحركات لا تتناهى بالقوة لا القوة التي تخرج إلى الفعل بل بمعنى أن الأعداد يتأتى أن تتزايد فلا تقف عند نهاية أخيرة‏.‏

واعلم أن القوى تختلف في الزيادة والنقصان بالنسبة إلى شدة ظهور الفعل عنها أو إلى عدة ما يظهر عنها أو إلى مدة بقاء الفعل وبينها فرقان بعيدان فإن جل ما يكون زائداً بنوع الشدة يكون ناقصاً بنوع المدة‏.‏

وكل قوة حركت أشد فمدة حركتها أقصر وعدة حركتها أكثر ولا يجوز أن تكون قوة غير متناهية بحسب اعتبار الشدة لأن ما يظهر من الأحوال القابلة لها لا يخلو‏:‏ إما أن يقل الزيادة على ما ظهر فيكون متناهياً يجوز عليه زيادة في آخره وإما أن لا يقبل فهو النهاية في الشدة فكل قوة جسمانية متجزئة ومتناهية‏.‏

وأما الكلام في الجهات فمن المعلوم أنا لو فرضنا خلاء فقط أو أبعاداً أو جسماً غير متناه فلا يمكن أن يكون للجهات المختلفة بالنوع وجود البتة فلا يكون فوق وسفل ويمين ويسار وقدام وخلف فالجهات إنما تتصور في أجسام متناهية فتكون الجهات أيضاً متناهية ولذلك يتحقق إليها إشارة‏.‏

ولذاتها اختصاص وانفراد عن جهة أخرى‏.‏

وإذا كانت الأجسام كرية فيكون تحدد الجهات على سبيل المحيط والمحاط والتضاد فيها على سبيل المركز والمحيط‏.‏

وإذا كان الجسم المحدد محيطاً كفى لتحديد الطرفين لأن الإحاطة تثبت المركز فتثبت غاية البعد منه وغاية القرب من غير حاجة إلى جسم آخر‏.‏

وأما إن فرض محاطاً لم تتحدد به وحده الجهات لأن القرب يتحدد به والبعد منه يتحدد بجسم آخر إذ لا خلاء وذلك ينتهي لا محالة إلى محيط‏.‏

ويجب أن تكون الأجسام المستقيمة الحركة لا يتأخر عنها وجود الجهات لأمكنتها وحركاتها بل الجهات تحصل بحركاتها فيجب أن يكون الجسم الذي تتحدد الجهات إليه جسماً متقدماً عليه وتكون إحدى الجهات بالطبع وسائر الجهات لا تكون واجبة في الأجسام بما هي أجسام بل بما هي حيوانات فتتميز فيها جهة القدام الذي إليه الحركة الاختيارية واليمين الذي منه مبدأ القوة والفوق إما بقياس فوق العالم والسفل محدودان بطرفي البعد الذي الأولى أن يسمى طولاً واليمين واليسار بما الأولى أن يسمى عرضاً والقدام والخلف بما الأولى أن يسمى عمقاً‏.‏

المقالة الثانية في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام‏.‏

من المعلوم أن الأجسام تنقسم إلى بسيطة ومركبة وأن لكل جسم حيزاً ما ضرورة فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون كل حيز له طبيعياً أو منافياً لطبيعته أو لا طبيعياً ولا منافياً أو بعضه طبيعياً وبعضه منافياً‏.‏

وبطل أن يكون كل حيز له طبيعياً لأنه يلوم منه أن يكون مفارقة كل مكان له خارجاً عن طبعه أو التوجه إلى كل مكان له ملائماً لطبعه وليس الأمر كذلك فهو خلف‏.‏

وبطل أن يكون كل حيز منافياً لطبعه لأنه يلزم منه أن لا يسكن جسم البتة بالطبع ولا يتحرك أيضاً وكيف يسكن أو يتحرك بالطبع وكل مكان مناف لطبعه‏.‏

وبطل أن يكون كل مكان لا طبيعياً ولا منافياً لأنا إذا اعتبرنا الجسم على حالته وقد ارتفع عنه القواسر والعوارض فحينئذ لا بد له من حيز يختص به ويتحيز إليه وذلك هو حيزه الطبيعي فلا يزول عنه إلا بقسر قاسر‏.‏

وتعين القسم الرابع‏:‏ لأن بعض الأحياز له طبيعي وبعضها غير طبيعي‏.‏

وكذلك نقول في الشكل‏:‏ إن لكل جسم شكلاً ما بالضرورة لتناهي حدوده وكل شكل فإما طبيعي له أو بقسر قاسر وإذا ارتفعت القواسر في التوهم واعتبرت الجسم من حيث هو جسم وكان في نفسه متشابه الأجزاء فلا بد أن يكون شكله كرياً لأن فعل الطبيعة في المادة واحد متشابه فلا يمكن أن يفعل في جزء زاوية وفي جزء خطاً مستقيماً أو منحنياً فينبغي أن يتشابه الأجزاء فيجب أن يكون الشكل كرياً‏.‏

وأما المركبات فقد تكون أشكالها غير كرية لاختلاف أجزائها‏.‏

فالأجسام السماوية كلها كرية‏.‏

وإذا تشابهت أجزاؤها وقواها كان حيزها الطبيعي وجهتها واحدة فلا يتصور أرضا في وسطين في عالمين ولا ناران في أفقين بل لا يتصور عالمان لأنه قد ثبت أن العالم بأسره كري الشكل فلو قدر كريان أحدهما بجنب الآخر كان بينهما خلاء ولا يتصلان إلا بجزء واحد لا ينقسم وقد تقدم استحالة الخلاء‏.‏

وأما الحركة فمن المعلوم أن كل جسم اعتبر ذاته من غير عارض بل من حيث هو جسم في حيز فهو إما أن يكون متحركاً وإما أن يكون ساكناً وذلك ما نعنيه بالحركة الطبيعية والسكون الطبيعي فنقول‏:‏ إن كان الجسم بسيطاً كانت أجزاؤه متشابهة وأجزاء ما يلاقيه وأجزاء مكانه كذلك فلم يكن بعض الأجزاء أولى بأن يختص بعض أجزاء المكان من بعض فلم يجب أن يكون شيء منها له طبيعياً فلا يمتنع أن يكون على غير ذلك الوضع بل في طباعه أن يزول عن ذلك الوضع أو الأين بالقوة وكل جسم لا ميل له في طبعه فلا يقبل الحركة عن سبب خارج فبالضرورة في طباعه حركة ما إما لكله وإما لأجزائه حتى يكون متحركاً في الوضع بحركة الأجزاء وإذا‏:‏ صح أن كل قابل تحريك ففيه مبدأ ميل ثم لا يخلو إما أن يكون على الاستقامة أو على الاستدارة‏.‏

والأجسام السماوية لا تقبل الحركة المستقيمة كما سبق فهي متحركة على الاستدارة وقد بينا استناد حركاتها إلى مبادئها‏.‏

وأما الكيف فنقول أولاً‏:‏ إن الأجسام السماوية ليست موادها مشتركة بل هي مختلفة بالطبع كما أن صورها مختلفة ومادة الواحدة منها لا يصلح أن تتصور بصورة الأخرى ولو أمكن ذلك كذلك لقبلت الحركة المستقيمة وهو محال‏.‏

فلها طبيعة خامسة مختلفة بالنوع بخلاف طبائع العناصر فإن مادتها مشتركة وصورها مختلفة وهي تنقسم إلى حار يابس كالنار وإلى حار رطب كالهواء وإلى بارد رطب كالماء وإلى بارد يابس كالأرض وهذه أعراض فيها لا صور ويقبل الاستحالة بعضها إلى بعض ويقبل النمو والذبول ويقبل الآثار من الأجسام السماوية‏.‏

وأما الكيفيات فالحرارة والبرودة فاعلتان فالحار هو الذي يغير جسماً آخر بالتحليل والخلخلة بحيث يألم الحاس منه والبارد هو الذي يغير جسماً بالتعقيد والتكثيف بحيث يألم الحاس منه‏.‏

وأما الرطوبة واليبوسة فمنفعلتان فالرطب هو سهل القبول للتفريق والجمع والتشكيل والدفع واليابس هو عسر القبول لذلك‏.‏

فبسائط الأجسام المركبة تختلف وتتمايز بهذه القوى الأربع ولا يوجد شيئاً منها عديماً لواحدة من هذه‏.‏

وليست هذه صوراً مقومة للأجسام لكنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع من خارج ظهر منها في أجرامها حر أو برد ورطوبة ويبس كما أنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع ظهر منها إما سكون أو ميل وحركة فلذلك قيل قوة طبيعية وقيل النار حارة بالطبع والسماء متحركة بالطبع‏.‏

فعرفت الأحياز الطبيعية والأشكال الطبيعية والحركات الطبيعية والكيفيات الطبيعية‏.‏

وعرفت أن إطلاق الطبيعية عليها بأي وجه فنقول بعد ذلك‏:‏ إن العناصر قابلة للاستحالة والتغير وبينها مادة مشتركة والاعتبار في ذلك بالمشاهدة فإنا نرى الماء العذب انعقد حجراً جلمد والحجر يكلس فيعود رماداً ويرام بالحيلة حتى يصير ماء فالمادة مشتركة بين الماء والأرض‏.‏

ونشاهد هواء صحواً يغلظ دفعة فيستحيل أكثره أو كله ماء وبرداً وثلجاً ونضع الجمد في كوز صفر فنجد من الماء المجتمع على سطحه كالقطر ولا يمكن أن يكون ذلك بالرشح لأنه ربما كان ذلك حيث لا يماسه الجمد وكان فوق مكانه ثم لا نجد مثله إذا كان حاراً والكوز مملوءا ويجتمع مثل ذلك داخل الكوز حيث لا يماسه الجمد وقد يدفن القدح في جمد محفور حفراً مهندماً ويسد رأسه عليه فيجتمع فيه ماء كثير وإن وضع في الماء الحار الذي يغلي مدة واستد رأسه لم يجتمع شيء وليس ذلك إلا لأن الهواء الخارج أو الداخل قد استحال ماء فبين الماء والهواء مادة مشتركة‏.‏

وقد يستحيل الهواء ناراً وهو ما نشاهد من آلات حاقنة مع تحريك شديد على صورة المنافخ فيكون ذلك الهواء بحيث يشتعل في الخشب وغيره وليس ذلك على طريق الانجذاب لأن النار لا تتحرك إلا على سبيل الاستقامة إلى العلو ولا على طريق الكمون إذ من المستحيل أن يكون في ذلك الخشب من النار الكامنة ما له ذلك القدر الذي في الجمرة ولا يحترق والكمون أجمع لها والمنتشر أضعف تأثيراً من المجتمع فتعين أنه هواء اشتعل ناراً فبين النار والهواء مادة مشتركة‏.‏

ونقول‏:‏ إن العناصر قابلة للكبر والصغر والتكاثف والتخلخل فيصير جسم أكبر من جسم من غير زيادة من خارج ويصير أصغر من غير نقصان فبين الكبير والصغير مادة مشتركة إذ قد تحقق أن المقدار عرض في الهيولى والكبر والصغر أعراض في الكميات‏.‏

وقد نشاهد ذلك إذا أغلي الماء انتفخ وتخلخل والخمر ينتفخ في الدن حتى يتصعد عند الغليان وكذلك القمقمة الصياحة وهي إذا كانت مسدودة الرأس مملوءة بالماء وأوقدت النار تحتها انكسرت وتصدعت ولا سبب له إلا أن الماء صار أكثر مما كان ولا جائز من الماء ولا خلاء فيه ولا جائز أن يقال‏:‏ إن النار طلبت جهة الفوق بطبعها فإنه كان ينبغي أن ترفع الإناء وتطيره لا أن تكسره وإذا كان الإناء صلباً خفيفاً كان رفعه أسهل من كسره فتعين أن السبب انبساط الماء في جميع الجوانب ودفعه سطح الإناء إلى الجوانب فيتفتق الموضع الذي كان أضعف وله أمثلة أخرى تدل على أن المقدار يزيد وينقص‏.‏

ونقول‏:‏ إن العناصر قابلة للتأثيرات السماوية‏:‏ غما آثار محسوسة مثل نضج الفواكه ومد البحار وأظهرها الضوء والحرارة بواسطة الضوء والتحريك إلى فوق بتوسط الحرارة والشمس ليست بحارة ولا متحركة إلى فوق وإنما تأثيراتها معدات للمادة في قبول الصورة من واهب الصور وقد يكون للقوى الفلكية تأثيرات خارجة من العنصريات وإلا فكيف يبرد الأفيون أقوى مما يبرد الماء والجزء البارد فيه مغلوب بالتركيب مع الأضداد وكيف يفعل ضوء الشمس في عيون العشي والنبات بأدنى تسخين ما لا تفعله النار بتسخين يكون فوقه‏.‏

فتبين أن العناصر كيف قبلت الاستحالة والتغير والتأثير‏.‏

وتبين ما لها بالعنصر والجوهر‏.‏

المقالة الثالثة في المركبات والآثار العلوية‏.‏

قال ابن سينا‏:‏ إن العناصر الأربعة عساها أن لا توجد كلياتها صرفة بل يكون فيها اختلاط ويشبه أن تكون النار أبسطها في موضعها ثم الأرض أما النار فلأن ما يخالطها يستحيل إليها لقوتها وأما الأرض فلأن نفوذ قوى ما يحيط بها في كليتها بأسرها كالقليل وعسى أن يكون باطنها القريب من المركز يقرب من البساطة ثم الأرض على طبقات‏:‏ الطبقة الأولى القريبة من المركز والثانة الطين والثالثة بعضها ماء وبعضها طين جففته الشمس وهو البر‏.‏

والسبب في أن الماء غير محيط بالأرض أن الأرض تنقلب ماء فتحصل وهدة والماء يستحيل أرضاً فتحصل ربوة والأرض صلب وليس بسيال كالماء والهواء حتى ينصب بعض أجزائه إلى بعض ويتشكل بالاستدارة‏.‏

وأما الهواء فهو أربع طبقات‏:‏ طبقة تلي الأرض فيها مائية من البخارات وحرارة لأن الأرض تقبل الضوء من الشمس فتحمي فتتعدى الحرارة إلى ما يجامرها وطبقة لا تخلو عن رطوبة بخارية ولكن أقل حرارة وطبقة هي هواء صرف صاف وطبقة دخانية لأن الأدخنة ترتفع إلى الهواء وتقصد مركز النار فتكون كالمنتشر في السطح الأعلى من الهواء إلى أن تتصعد فتحترق‏.‏

وأما النار فإنها طبقة واحدة ولا ضوء لها بل هي كالهواء المشف الذي لا لون له وإن رئي لون للنار فهي بما يخالطها من الدخان صارت ذات لون‏.‏

ثم فوق النار الأجرام العالية الفلكية والعناصر بطبقاتها طوعها والكائنات الفاسدات تتولد من تأثيراتها‏.‏

والفلك وإن لم يكن حاراً ولا بارداً فإنه ينبعث منه في الأجرام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منه إليها ونشاهد هذا من إحراق شعاعه المنعكس على المرائي ولو كان سبب الإحراق حرارة الشمس دون شعاعه لكان كل ما هو أقرب إلى العلو أسخن بل سبب الإحراق التفاف الشعاع الشمسي المسخن لما يلتف به فيسخن الهواء فالفلك إذاً هيج بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية الأرضية‏.‏

والبخار أقل مسافة وأثار شيئاً بين الغبار والدخان من الأجسام المائية الأرضية‏.‏

والبخار أقل مسافة في صعوده من الدخان لأن الماء إذا سخن كان حاراً رطباً‏.‏

والأجزاء الأرضية إذا سخنت ولطفت كانت حارة يابسة والحار الرطب أقرب إلى طبيعة الهواء والحار اليابس أقرب إلى طبيعة النار‏.‏

والبخار لا يجاوز مركز الهواء بل إذا وافى منقطع تاثير الشعاع برد وكثف والدخان يتعدى حيز الهواء حتى يوافي تخوم النار وإذا احتبستا فيهما حدثت كائنات أخر‏.‏

فالدخان إذا وافى حيز النار اشتغل وإذا اشتعل فربما سعى فيه الاشتعال فرئي كأنه كوكب يقذف به وربما احترق وثبت فيه الاحتراق فرئيت العلامات الهائلة الحمر والسود ز ربما كان غليظاً ممتداً وثبت فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب ودارت به النار بدوران الفلك وكان ذنباً له وربما كان عريضاً فرئي كأنه لحية كوكب وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب المذكور فانضغطت مشتعلة وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد صار ريحاً وسط الغيم يتحرك عنه بشدة يحصل منه صوت يسمى الرعد وإن ناراً مضيئة تسمى البرق وإن كان المشتعل كثيفاً ثقيلاً محرقاً اندفع بمصادمات الغيم إلى جهة الأرض فيسمى صاعقة ولكنها نار لطيفة تنفذ في الثياب والأشياء الرخوة وتنصدم بالأشياء الصلبة كالذهب والحديد فيذيبه حتى يذيب الذهب في الكيس ولا يحرق الكيس ويذيب ذهب المراكب ولا يحرق السير‏.‏

ولا يخلو برق عن رعد لأنهما جميعاً عن الحركة ولكن البصر أحد فقد يرى البرق ولا ينتهي صوت الرعد إلى السمع وقد يرى متقدماً ويسمع متأخراً‏.‏

وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جداً ويتراكم ويكثر مدده في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً والقاطر مطراً ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً وينزل كما لو يوافيه برد الليل سريعاً قبل أن يتركم سحاباً وهذا هو الطل وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب فنزل وكان ثلجاً وربما جمد البخار غير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل فنزل وكان صقيعاً وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان برداً وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب وفي الربيع وهو داخل السحاب وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة وربما تكاثف في الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً واستحال مطراً‏.‏

ثم ربما وقع على صقيل الظاهر من السحاب صور النيرات وأضواؤها كما يقع في المرائي والجدران الثقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها وبعدها من المرئي وصفائها وكدورتها واستوائها ورعشتها وكثريها وقلتها فيرى هالة وقوس قزح وشموس وشهب‏.‏

فالهالة تحدث على انعكاس البصر عن الرش المطيف بالنير إلى النير حيث يكون الغمام المتوسط لا يخفي النير فيرى دائرة كأنها منطقة محورها الخط الواصل بين الناظر وبين النير وما في داخلها ينفذ عن البصر إلى النير ونوره الغالب على أجزاء الرش يجعله كأنه غير موجود وكأن الغيم هناك هواء شفاف‏.‏

وأما القوس فإن الغمامة يكون في خلاف جهة النير فتنعكس الزوايا عن الرش إلى النير لا بين الناظر والنير بل الناظر أقرب إلى النير منه إلى المرآة فتقع الدائرة التي هي كالمنطقة أبعد من الناظر إلى النير فإن كانت الشمس على الأفق كان الخط المار بالناظر والنير على بسيط الأفق وهو المحور فيجب أن يكون سطح الأفق يقسم المنطقة بنصفين فيرى القوس نصف دائرة فإن ارتفعت الشمس انخفض الخط المذكور فصار الظاهر في المنطقة الموهومة أقل من نصف دائرة وأما تحصيل الألوان على الجهة الشافية فإنه لم يستبن بعد‏.‏

والسحب ربما تفرقت وذابت فصارت ضباباً وربما اندفعت بعد التطلف إلى أسفل فصارت رياحاً وربما هاجت الرياح لاندفاع بعضها من جانب إلى جهة وربما هاجت لانبساط الهواء بالتخلخل عند جهة واندفاعه إلى أخرى وأكثر ما يهيج البرد الدخان المتصعد المجتمع الكثير ونزوله فإن مبادئ الرياح فوقانية وربما عطفها مقاومة الحركة الدورية التي تتبع الهواء العالي فانعطفت رياحاً والسموم ما كان منها محترقاً‏.‏

وأما الأبخرة داخل الأرض فتميل إلى جهة فتبرد فتستحيل ماء فيصعد بالمد فيخرج عيوناً وإن لم تدعها السخونة تبرد وكثرت وغلظت فلم تنفذ في مجاري مستحصفة فاجتمعت واندفعت مرة فزلزلت الأرض فخسفت وقد تحدث الزلزلة من تساقط أعالي وهدة في باطن الأرض فيموج بها الهواء المحتقن وإذا احتبست الأبخرة في باطن الجبال والكهوف فيتولد منها الجواهر إذا وصل إليها من سخونة الشمس وتأثير الكواكب حظ وذلك بحسب اختلاف المواضع والأزمان والمواد‏.‏

فمن الجواهر ما هو قابل للإذابة والطرق كالذهب والفضة ويمون قبل أن يصلب زئبقاً ونفطاً وانطراقها لحياة رطوبتها ولعصيانها الجمود التام‏.‏

ومنها ما لا يقبل ذلك‏.‏

وقد تتكون من عناصر أكوان أيضاً بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجاً أكثر اعتدالاً من المعادن فيحصل في المركب قوة عادية وقوة نامية وقوة مولدة وهذه القوى متمايزة بخصائصها‏.‏

المقالة الرابعة‏:‏ في النفوس وقواها‏.‏

اعلم أن النفس كجنس واحد ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها النباتية‏:‏ وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويغتذي والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل إنه غذاؤه‏:‏ ويزيد فيه مقدار ما يتحلل أو أكثر أو أقل‏.‏

والثاني النفس الحيوانية‏:‏ وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة‏.‏

والثالث النفس الإنسانية‏:‏ وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية‏.‏

وللنفس النباتية قوى ثلاث وهي‏:‏ القوة الغاذية‏:‏ وهي القوة التي تحيل جسماً آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه والقوة المنمية‏:‏ وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه بالجسم المتشبه به زيادة في أقطاره طولاً وعرضاً وعمقاً بقدر الواجب ليبلغ به كماله في النشوء والقوة المولدة‏:‏ وهي التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءاً هو شبيه له بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشابه به من التخليق والتمزيج ما يصير شبيهاً به بالفعل‏.‏

فللنفس النباتية ثلاث قوى‏.‏

وللنفس الحيوانية قوتان محركة ومدركة والمحركة على قسمين إما محركة بأنها باعثة وإما محركة بأنها فاعلة‏.‏

والباعثة‏:‏ هي القوة النزوعية الشوقية‏.‏

وهي القوة التي إذا ارتسمت في التخيل بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها حملت القوة التي تدركها على التحريك ولها شعبتان‏:‏ شعبة تسمى شهوانية وهي قوة تبعث على تحريك يقرب من الأشياء المتخيلة ضرورة أو نافعة طلباً للذة وشعبة تسمى غضبية وهي قوة تبعث على تحريك تدفع به الشيء المتخيل ضاراً أو مفسداً طلباً للغلبة‏.‏

وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات ومن شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ أو ترخيها أو تمددها طولاً فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ‏.‏

وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين‏:‏ أحدهما قوة تدرك من خارج وهي الحواس الخمس أو الثمانية‏:‏ فمنها البصر وهي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقلية‏.‏

ومنها السمع وهي قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ تدرك صورة ما يتلأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاضاً بعنف يحدث منه تموج فاعل للصوت يتادى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة العصبة فيسمع‏.‏

ومنها الشم وهي قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتتين بحلمتي الثدي تدرك ما يؤدي إليه الهواء المستنشق من الرائحة المخالطة لبخار الريح والمنطبع بالاستحالة من جرم ذي رائحة‏.‏

ومنها الذوق وهي قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحللة من الأجسام المماسة المخالطة للرطوبة اللعابية التي فيه فتحيله‏.‏

ومنها اللمس وهي قوة منبثة في جلد البدن كله ولحمه فاشية فيه والأعصاب تدرك ما تماسه وتؤثر فيه بالمضادة وتغيره في المزاج أو الهيئة ويشبه أن تكون هذه القوة لا نوعاً بل جنساً لأربع قوى منبثة معاً في الجلد كله‏:‏ الواحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد والثانية حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الرطب واليابس والرابعة حاكمة في التضاد الذي بين الخشن والأملس إلا أن اجتماعها معاً في آلة واحدة يوهم تأحدها في الذات‏.‏

والمحسوسات كلها تتأدى إلى آلات الحس فتنطبع فيها فتدركها القوة الحاسة‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ قوى تدرك في باطن فمنها ما يدرك صور المحسوسات ومنها ما يدرك معاني المحسوسات‏.‏

والفرق بين القسمين في أن الصورة هو الشيء الذي تدركه النفس الناطقة والحس الظاهر معاً ولكن الحس يدركه أولاً ويؤديه إلى النفس مثل إدراك الشاة صورة الذئب‏.‏

أو المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس أولاً مثل إدراك الشاة المعنى المضاد في الذئب الموجب لخوفها إياه وهربها عنه‏.‏

ومن المدركات الباطنة ما يدرك ويفعل ومنها ما يدرك ولا يفعل‏.‏

والفرق بين القسمين‏:‏ أن الفعل فيها هو أن تركب الصور والمعاني المدركة بعضها مع بعض وتفصل بعضها عن بعض فيكونه إدراك وفعل أيضاً فيما أدرك والإدراك لا مع الفعل هو أن تكون الصورة أو المنى ترتسم في القوة فقط من غير أن يكون لها فعل وتصرف فيه‏.‏

ومن المدركات الباطنة ما يدرك أولاً ومنها ما يدرك ثانياً والفرق بين القسمين‏:‏ أن الإدراك الأول هو أن يكون حصول الصورة على نحو ما من الحصول قد وقع للشيء من نفسه والإدراك الثاني هو أن يكون حصولها من جهة شيء آخر أدى إليها‏.‏

ثم من القوى الباطنة المدركة الحيوانية قوة بنطاسية وهو الحس المشترك وهي قوة مرتبة في التجويف الأول من مقدم الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس متأديه إليه‏.‏

ثم الخيال والمصورة وهي قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ تحفظ ما قله الحس المشترك من الحواس ويبقى فيها بعد غيبة المحسوسات‏.‏

والقوة التي تسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية وتسمى مفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية فهي قوة مرتبة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختيار‏.‏

ثم إن القوة الوهمية وهي قوة مرتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب عنه وأن الولد معطوف عليه‏.‏

ثم القوة الحافظة الذاكرة وهي قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة في المحسوسات‏.‏

ونسبة الحافظة إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك إلا أن ذلك في المعاني وهذا في وأما النفس الناطقة للإنسان فتنقسم قواها أيضاً إلى قوة عالمة وقو عاملة وكل واحد من القوتين يسمى عقلاً باشتراك الاسم‏.‏

فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء تخصها إصلاحية ولها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية واعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة واعتبار بالقياس إلى نفسها‏.‏

وقياسها إلى النزوعية أن تحدث عنها فيها هيئات تخص الإنسان تتهيأ بها لسرعة فعل وانفعال مثل الخجل والحياء والضحك والبكاء‏.‏

وقياسها إلى المتخيلة والمتوهمة هو أن تستعملها في استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة واستنباط الصناعات الإنسانية‏.‏

وقياسها إلى نفسها أن فيما بينها وبين العقل النظري تتولد الآراء الذائعة المشهورة مثل إن الكذب قبيح والصدق حسن‏.‏

وهذه القوة هي التي يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة العاقلة حتى لا تنفعل عنه البتة بل ينفعل عنها فلا يحدث فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية وهي التي تسمى أخلاقاً رذيلة بل تحدث في القوى البدنية هيئات انقيادية لها وتكون متسلطة عليها‏.‏

وأما القوة العالمة النظرية فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة فإن كانت مجردة بذاتها فذاك وإن لم تكن فإنها تسيرها مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء‏.‏

ثم لها إلى هذه الصور نسب وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئاً قد يكون بالقوة قابلاً لها وقد يكون بالفعل‏.‏

والقوة على ثلاثة أوجه‏:‏ قوة مطلقة هيولانية وهو الاستعداد المطلق من غير فعل ما كقوة الطفل على الكتابة وقوة ممكنة وهو استعداد مع فعل ما كقوة الطفل بعد ما تعلم بسائط الحروف وقوة تسمى ملكة وهي قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة ويكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى اكتساب‏.‏

فالقوة النظرية قد تكون نسبتها إلى الصور نسبة الاستعداد المطلق وتسمى عقلاً هيولانياً وإذا حصل فيها من المعقولات الأولى التي يتوصل بها إلى المعقولات الثانية تسمى عقلاً بالفعل وإذا حصلت فيها المعقولات الثانية المكتسبة وصارت محزونة له بالفعل متى شاء طالعها فإن كانت حاضرة عنده بالفعل تسمى عقلاً مستفاداً وإذا كانت مخزونة تسمى عقلاً بالملكة وههنا ينتهي النوع الإنساني ويتشبه بالمبادئ الأولى للوجود كله‏.‏

وللناس مراتب في هذا الاستعداد فقد يكون عقل شديد الاستعداد حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شيء من تخريج وتعليم حتى كأنه يعرف كل شيء من نفسه لا تقليداً بل بترتيب يشتمل على حدود وسطى فيه‏:‏ إما دفعة في زمان واحد وإما دفعات في أزمنة شتى وهي القوة القدسية التي تناسب روح القدس فيفيض عليها منه جميع المعقولات‏.‏

أو ما يحتاج إليه في تكميل القوة العملية‏.‏

فالدرجة العليا منها النبوة فربما يفيض عليها وعلى المتخيلة من روح القدس معقول تحاكيه المتخيلة بأمثلة محسوسة وكلمات مسموعة فيعبر عن الصورة بملك في صورة رجل وعن الكلام بوحي في صورة عبارة‏.‏

المقالة الخامسة في أن النفس الإنسانية جوهر ليس بجسم ولا قائم بجسم‏.‏

وأن إدراكها قد يكون بآلات وقد يكون بذاتها بغير آلات‏.‏

وأنها واحدة وقواها كثيرة وأنها حادثة مع حدوث البدن وباقية بعد فناء البدن‏.‏

أما البرهان على أن النفس ليست بجسم هو أنا نحس من ذواتنا إدراكاً معقولاً مجرداً عن المواد وعوارضها أعني الكم والأين والوضع إما لأن المدرك لذاته مجرد كالعلم بالوحدة والعلم بالوجود مطلقاً وإما لان العقل جرده عن العوارض كالإنسان مطلقاً‏.‏

فيجب أن ينظر في ذات هذه الصورة المجردة كيف هي تجردها أبالقياس إلى الشيء المأخوذ عنه أم بالقياس إلى مجرد الآخذ ولا شك أنها بالقياس إلى المأخوذ عنه ليست مجردة فبقي أنها مجردة من الوضع والأين عند وجودها في العقل والجسم ذو وضع وأين وما لا وضع له لا يحل ما له وضع وأين‏.‏

وهذه الطريقة أقوى الطرق فإن الشيء المعقول الواحد الذات المتجرد عن المادة لا يخلو‏:‏ إما أن يكون له نسبة إلى بعض الأجزاء دون البعض فيحل في جهة دون جهة حتى يكون متيامناً أو متياسراً بالنسبة إلى المحل أو تكونه نسبته إلى الكل نسبة واحدة أو لا يكون لها نسبة إليه ولا له إلى جميع الأجزاء فإن ارتفعت النسبة من كل وجه ارتفع الحلول في جملة الجسم أو في جزء من أجزائه وإن تحققت النسبة صار الشيء المعقول ذا وضع وقد وضع غير ذي وضع هذا خلف‏.‏

وبه يتبين أن الصورة المنطبعة في المادة لا تكون إلا أشباحاً لأمور جزئية منقسمة ولكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منها‏.‏

وأيضاً فإن الشيء المتكثر في أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة هو بها لا ينقسم فتلك الوحدة بما هي وحدة كيف ترتسم في منقسم‏.‏

وأيضاً من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحداً من المعقولات غير متناهية بالقوة وليس واحد أولى من الآخر وقد صح لنا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون محله جسماً ولا قوة في جسم‏.‏

ومن الدليل القاطع على أن محل المعقولات ليس بجسم‏:‏ أن الجسم منقسم بالقوة بالضرورة وما لاينقسم لا يحل المنقسم والمعقول غير منقسم فلا يحل المنقسم‏:‏ أما أن الجسم منقسم فقد دللنا عليه وأما أن المعقول المجرد لا ينقسم فقد فرغنا عنه وأما أن لا ينقسم لا يحل منقسماً فإنا لو قسمنا المحل فلا يخلو‏:‏ إما أن يبطل الحال فيه وهذا كذب أو لا يبطل ولا يخلو‏:‏ إما أن يبقى حالاً في بعضه كما كان حالاً في كله وهذا محال فإنه يجب أن يكون حكم البعض حكم الكل وإما أن ينقسم بانقسام محله وقد فرض فير منقسم‏.‏

ثم لو فرض انقسام الحال فيه لا يخلو‏:‏ إما أن كون أجزاؤه متشابهة كالشكل المعقول أو العدد وليس كل صورة معقولة بشكل أو تكون الصورة المعقولة خيالية لا عقلية صرفة‏.‏

وأظهر من ذلك أنه ليس يمكن أن يقال‏:‏ إن كل واحد من الجزأين هو بعينه الكل في المعنى وإن كانت غير متشابهين مثل أجزاء الحد من الجنس والفصل فيلزم منه محالت‏:‏ منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضاً فيجب أن تكون الأجناس والفصول غير متناهية وهذا باطل‏.‏

وأيضاً فإنه إن وقع الجنس في جانب والفصل في جانب وهو محال ثم ليس أحد الجزءان أولى بقبول الجنس منه بقبول الفصل‏.‏

وأيضاً‏:‏ ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات ابسط فإن ههنا معقولات هي ابسط المعقولات ومبادئ للتركيب في سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول ولا انقسام في الكم ولا في المعنى فلا يتوهم فيها أجزاء مشابهة‏.‏

فتبين بهذه الجملة أن محل المعقولات ليس بجسم ولا قوة في جسم فهو إذاً‏:‏ جوهر معقول علاقته مع البدن لا علاقة حلول ولا علاقة انطباع بل علاقة التدبير والتصرف وعلاقته من جهة العلم الحواس الباطنة المذكورة وعلاقته من جهة العمل القوى الحيوانية المذكورة فيتصرف في البدن‏.‏

وله فعل خاص يستغني به عن البدن وقواه فإن من شأن هذا الجوهر أن يعقل ذاته ويعقل أنه عقل ذاته وليس بينه وبين ذاته آلة ولا بينه وبين آلته آلة فإن إدراك الشيء لا يكون إلا بحصول صورته فيه‏.‏

وما يقدر آلة من قلب أو دماغ لا يخل‏:‏ إما أن تكون صورته بعينها حاصلة للعقل حاضرة وإما أن تكون صورة غيرها بالعدد حاصلة أبداً فيجب أن يكون إدراك العقل لها حاصلاً أبداً وليس الأمر كذلك فإنه تارة يعقل وتارة يعرض عن الإدراك والأعراض عن الحاضر محال‏.‏

وباطل أن تكون الصور غير الآلة بالعدد فإنها إما أن تحل في نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بنفسها وليست في الجسم وإما بمشاركة الجسم حتى لا تكون هذه الصورة المغايرة في نفس القوة العقلية وفي الجسم الذي هو الآلة فيؤدي إلى اجتماع صورتين متماثلتين في جسم واحد وهو محال‏.‏

والمغايرة بين أشياء تدخل في حد واحد إما لاختلاف المواد أو لاختلاف ما بين الكلي والجزئي وليس هذان الوجهان فثبت أنه لا يحرز أن يدرك المدرك آلة هي آلته في الإدراك‏.‏

ولا يختص ذلك وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته ولهذا فإن القوى الداركة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها الكلال من إدامة العمل والأمور القوية والشاقة الإدراك توهنها وربما تفسدها كالضوء الشديد للبصر والرعد القوي للسمع وكذلك عند إدراك القوي لا يقوى على إدراك الضعيف‏.‏

والأمر في القوة العقلية بالعكس فإن إدامتها للتعقل وتصورها الأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول وإن عرض لها كلال وملال فلاستعانة العقل بالخيال‏.‏

على أن القوى الحيوانية ربما تعين النفس الناطقة في أشياء منها أن يورد عليها الحس جزئيات الأمور فيحدث لها أمور أربعة‏:‏ أحدها‏:‏ انتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعلائقها ولواحقها ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتي وجوده والعرضي فيحدث للنفس من ذلك مبادئ بين هذه الكليات المفردة على مثل سلب وإيجاب فما كان التأليف منها بسلب وإيجاب ذاتياً بيناً بنفسه أخذته وما كان ليس كذلك تركته إلى يصادف الواسطة‏.‏

والثالث‏:‏ تحصيل المقدمات التجريبية بأن يوجد بالحس محمول لازم الحكم لموضوع أو تال لازم لمقدم فيحصل له اعتقاد مستفاد من حس وقياس ما‏.‏

والرابع‏:‏ الأخبار التي يقع بها التصديق لشدة التواتر‏.‏

فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادئ للتصور والتصديق وأما إذا استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق وتكون القوى الحسية والخيالية وغيرها صارفة لها عن فعلها وربما تصير الوسائط والأسباب عوائق‏.‏

قال‏:‏ والدليل أن النفس الإنسانية حادثة مع حدوث البدن أنها متفقة في النوع والمعنى فإن وجدت قبل البدن‏:‏ فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتاً واحدة ومحال أن تكون متكثرة الذوات فإن تكثرها إما أن يكون من جهة الماهية والصورة وأما أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر والمادة وبطل الأول لأن صورتها واحدة وهي متفقة في النوع والماهية لا تقبل اختلافاً ذاتياً وبطل الثاني لأن البدن والعنصر فرض غير موجود‏.‏

قال‏:‏ ومحال أن تكون واحدة الذات لأنه إذا حصل بدنان حصلت فيهما نفسان‏:‏ فإما أن يكونا قسمي تلك النفس الواحدة وهو محال لأن ما ليس له عظم وحجم لا يكون منقسماً وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين وهذا لا يحتاج إلى كثير تكلف في إبطاله فقد صح أن النفس تحدث كلما حدث البدن الصالح لاستعمالها إياه ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها ويكون في هيئة جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن الذي استحقه نزاع طبيعي إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام بأحواله والانجذاب إليه يخصها ويصرفها عن كل الأجسام غيره بالطبع إلا بواسطته‏.‏

وأما بعد مفارقة البدن فإن الأنفس قد وجد كل واحد منها ذاتاً إلا بواسطته‏.‏

وأما بعد مفارقة البدن وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها التي بحسب أبدانها المختلفة لا محالة بأحوالها‏.‏

وأنها لا تموت بموت البدن لأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر فهو متعلق به نوعاً من التعلق‏:‏ فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود وكل واحد منهما جوهر قائم بنفسه فلا تؤثر المكافأة في الوجود في فساد أحدهما بفساد الثاني لأنه أمر إضافي وفساد أحدهما يبطل الإضافة لا الذات‏.‏

وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر في الوجود فالبدن علة النفس والعلل أربع‏:‏ فلا يجوز أن يكون علة فاعلية فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئاً إلا بقواه والقوى الجسمانية إما أعراض أو صور مادية فمحال أن يفيد أمر قائم بالمادة وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ولا يجوز أن يكون علة قابلية فقد بينا أن النفس ليست منطبقة في البدن‏.‏

ولا يجوز أن يكون علة صورية إن كمالية فإن الأولى أن يكون الأمر بالعكس‏:‏ فإذاً تعلق النفس بالبدن ليس تعلقاً على انه علة ذاتية لها‏.‏

نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس فإنه إذا حدث بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية فإن إحداثها بلا سبب يخصص إحداث واحد دون واحد يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد ولأن كل كائن بعد ما لم يكن يستدعي أن يتقدمه مادة يكون فيها تهيؤ قبوله أو تهيؤ نسبته إليه كما تبين‏.‏

ولأنه لو كان يجوز أن تكون النفس الجزئية تحدث ولم تحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود ولا شئ معطل في الطبيعة ولكن إذا حدث التهيؤ والاستعداد في الآلة حدث من العلل المفارقة شئ هو النفس‏.‏

وليس إذا وجب حدوث شئ من حدوث شئ وجب أن يبطل مع بطلانه‏.‏

وأما القسم الثالث مما ذكرناه وهو أن تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم فالمتقدم إن كان بالزمان فيستحيل أن يتعلق وجوده به وقد تقدمه في الزمان وإن كان بالذات فليس فرض عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم على أن فساد البدن بأمر يخصه من تغير المزاج والتركيب وليس ذلك مما يتعلق بالنفس‏:‏ فبطلان البدن لا يقتضي بطلان النفس‏.‏

ويقول‏:‏ إن سبباً آخر لا يفسد النفس أيضاً بل هي في ذاتها لا تقبل الفساد لان كل شئ من شأنه أن يفسد بأمر ما ففيه قوة أن يفسد وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى ومحال أن يكون من جهة واحدة في شئ واحد قوة أن يفسد وفعل أن يبقى فإن تهيؤه للفساد شئ وفعله للبقاء شئ آخر فالأشياء المركبة يجوز أن يجتمع فيها الأمران لوجهين أما البسيطة فلا يجوز أن يجتمعا فيها‏.‏

ومن الدليل على ذلك أيضاً‏:‏ أن كل شئ يبقى وله قوة أن يفسد فله قوة أن يبقى أيضاً‏:‏ لأن بقاءه ليس بواجب ضروري وإذا لم يكن واجباً كان ممكناً والإمكان هو طبيعة القوة فإذا‏:‏ يكون له في جوهره قوة أن يبقى وفعل أن يبقى فيكون فعل أن يبقى منه أمراً يعرض للشيء الذي له قوة على البقاء وفعل البقاء أمر مشترك البقاء له كالصورة وقوة البقاء له كالمادة فيكون مركباً من مادة وصورة وقد فرضناه واحداً فرداً هذا خلف‏.‏

فقد بان أن كل أمر بسيط فغير مركب فيه قوة أن يبقى وفعل أن يبقى بل ليس فيه قوة أن يعدم باعتبار ذاته والفساد لا يتطرق إلا إلى المركبات‏.‏

وإذا تقرر أن البدن إذا تهيأ واستعد استحق من واهب الصور نفساً تدبره ولا يختص هذا ببدن دون بدن بل كل بدن حكمه كذلك فإذا استحق النفس وقارنته في الوجود فلا يجوز أن تتعلق به نفس أخرى لأنه يؤدي إلى أن يكون لبدن واحد نفسان وهو محال فالتناسخ إذاً باطل‏.‏

المقالة السادسة في وجه خروج العقل النظري من القوة إلى الفعل‏.‏

وأحوال خاصة بالنفس الإنسانية من الرؤيا الصادقة والكاذبة وإدراكها علم الغيب ومشاهدتها صوراً لا وجود لها من خارج تلك الوجوه ومعنى النبوة والمعجزات وخصائصها التي تتميز بها عن المخاريق‏.‏

أما الأول فقد بينا أن النفس الإنسانية لها قوة هيولانية أي استعداد لقبول المعقولات بالفعل وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلابد له من سبب يخرجه إلى الفعل وذلك السبب يجب أن يكون موجوداً بالفعل فإنه لو كان موجوداً بالقوة لاحتاج إلى مخرج آخر‏:‏ فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى مخرج هو موجود بالفعل لا قوة فيه فلا يجوز أن يكون ذلك جسماً لأن الجسم مركب من مادة وصورة والمادة أمر بالقوة فهو إذاً جوهر مجرد عن المادة وهو العقل الفعال‏.‏

وإنما سمى فعالا بإزاء كون العقول الهيولانية منفعلة‏.‏

وقد سبق إثباته في الإلهيات من وجه آخر‏.‏

وليس يختص فعله بالعقول والنفوس بل وكل صورة تحدث في العالم فإنما هي من فيضه العام فيعطي كل قابل ما استعد له من الصور‏.‏

وأعلم أن الجسم وقوة في الجسم لا يوجد شيئاً فإن الجسم مركب من مادة وصورة والمادة طبيعتها عدمية فلو أثر الجسم لأثر بمشاركة المادة وهي عدم و العدم لا يؤثر في الوجود‏.‏

فالفعل الفعال‏:‏ هوا لمجرد عن المادة وعن كل قوة فهو بالفعل من كل وجه‏.‏

وأما الثاني من الأحوال الخاصة بالنفس فالنوم والرؤيا‏.‏

والنوم غرور القوى الظاهرة في أعماق البدن وانحناس الأرواح من الظاهر إلى الباطن ونعني بالأرواح ههنا أجساماً لطيفة مركبة من بخار الأخلاط التي منبعها القلب وهي مراكب القوى النفسانية والحيوانية ولهذا إذا وقعت سدة في مجاريها من الأعصاب المؤدية للحس بطل الحس وحصل الصرع والسكتة فإذا ركدت الحواس ورقدت بسبب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس لأنها لا تزال مشغولة بالتفكير فيما تورد الحواس عليها فإذا وجدت فرصة الفراغ وارتفع عنها المانع واستعدت للاتصال بالجواهر الروحانية الشريفة العقلية التي فيها نقشت الموجودات كلها فانطبع في النفس ما في تلك الجواهر من صور الأشياء لا سيما ما يناسب أغراض الرائي ويكون انطباع تلك الصور في النفس كانطباع صورة في مرآة من مرآة‏.‏

فإن كانت الصور جزئية ووقعت في النفس في المصورة وحفظتها الحافظة على وجهها من غير تصرف المتخيلة صدقت الرؤيا ولا تحتاج إلى تعبير وإن وقعت في المتخيلة حاكت ما يناسبها من الصور المحسوسة وهذه تحتاج إلى تعبير وتأويل ولما لم تكن تصرفات الخيال مضبوطة واختلفت باختلاف الأشخاص والأحوال اختلف التعبير وإذا تحركت المتخيلة منصرفة عن عالم العقل إلى عالم الحس واختلطت تصرفاتها كانت الرؤيا أضغاث أحلام لا تعبير لها وكذلك لو غلبت على المزاج إحدى الكيفيات الأربع رأى في المنام أحوالاً مختلطة‏.‏

وأما الثالث في إدراك علم الغيب في اليقظة‏.‏

إن بعض النفوس يقوى قوة لا تشغله الحواس ولا تمنعه بل يتسع بقوته للنظر إلى عالم العقل والحس جميعاً فيطلع إلى عالم الغيب فيظهر له بعض الأمور مثل البرق الخاطف وبقي المتصور المدرك في الحافظة بعينه وكان ذلك وحياً صريحاً‏.‏

وإن وقع في المخيلة واشتغلت بطبيعة المحاكاة كان ذلك مفتقراً إلى التأويل‏.‏

وأما الرابع في مشاهدة النفس صوراً محسوسة لا وجود لها وذلك أن النفس تدرك الأمور الغائبة إدراكاً قوياً فيبقى عين ما أدركته في الحفظ وقد تقبله قبولاً ضعيفاً فتستولي عليه المتخيلة وتحاكيه بصورة محسوسة واستتبعت الحس المشترك وانطبعت الصورة في الحس المشترك سراية إليه من المتصورة والمتخيلة‏.‏

والإبصار‏:‏ هو وقوع صورة في الحس المشترك فسواء وقع فيه من خارج بواسطة البصر أو وقع فيه أمر من داخل بواسطة الخيال كان ذلك محسوساً فمنه ما يكون من قوة النفس وقوة آلات الإدراك ومنه ما يكون من ضعف النفس والآلات‏.‏

قال‏:‏ خصائص المعجزات والكرامات ثلاث‏:‏ خاصية‏:‏ في قوة النفس وجوهرها ليؤثر في هيولي العالم بإزالة صورة وإبعاد صورة وذلك أن الهيولي منقادة لتأثير النفوس الشريفة المفارقة مطيعة لقواها السارية في العالم وقد تبلغ نفس إنسانية في الشرف إلى حد يناسب تلك النفوس‏.‏

فتفعل فعلها وتقوى على ما قويت هي فتزيل جبلاً عن مكانه وتذيب جوهراً فيستحيل ماء وتجمد جسماً سائلاً فيستحيل حجراً‏.‏

ونسبة هذه النفس إلى تلك النفوس كنسبة السراج إلى الشمس فكما أن الشمس تؤثر في الأشياء تسخيناً بالإضاءة كذلك السراج يؤثر بقدره‏.‏

وأنت تعلم أن للنفس تأثيرات جزئية في البدن فإنه إذا حدث في النفس صورة الغلبة والغضب حمى المزاج وأحمر الوجه وإذا حدثت صورة مشتهاة فيها‏:‏ حدثت في أوعية المنى حرارة مبخرة مهيجة للريح حتى تمتلئ به عروق آلة الوقاع فتستعد له‏.‏

والمؤثر ههنا مجرد التصور لا غير‏.‏

والخاصية الثانية‏:‏ أن تصفو النفس صفاء يكون شديد الاستعداد للاتصال بالعقل الفعال حتى يفيض عليها العلوم فإنا قد ذكرنا حال القوة القدسية التي تحصل لبعض النفوس حتى تستغني في أكثر أحوالها عن التفكر والتعلم فالشريف البالغ منها‏:‏ يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسه نار نور على نور‏.‏

والخاصية الثالثة للقوة المتخيلة بأن تقوى النفس وتتصل في اليقظة بعالم الغيب كما سبق وتحتكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة فترى في اليقظة وتسمع فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف صورة عجيبة في غاية الحسن وهو الملك الذي يراه النبي وتكون المعارف التي تتصل بالنفس من اتصالها بالجواهر الشريفة تتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع في الحس المشترك فيكون مسموعاً‏.‏

قال‏:‏ والنفوس وإن اتفقت في النوع إلا أنها تتمايز بخواص وتختلف أفاعيلها اختلافات عجيبة‏.‏

وفي الطبيعة أسرار ولاتصالات العلويات بالسفليات عجائب‏.‏

وجل جنات الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد وأن يرد عليه إلا واحد بعد واحد‏.‏

وبعد فإن ما يشتمل عليه هذا الفن ضحكة للمغفل عبرة للمحصل فمن سمعه فاشمأز عنه فليتهم نفسه فإنها لا تناسبه‏.‏

وكل ميسر لما خلق له‏.‏

تمت الطبيعيات بحمد الله‏.‏